في الشرق الأوسط تطول كثير من رحلات الطيران أكثر من بقية العالم، الأمر ليس سببه مشكلات جغرافية أو مناخية، فعلى العكس فإن الطقس في المنطقة صحو أكثر من أغلب الأقاليم الجغرافية الأخرى.
ولكن السبب هو السياسة وصراعاتها التي جعلت الطيران في المنطقة أشبه بحقل ألغام معقد تحتاج الطائرات فيه لتجنب كثير من السماوات المحظورة.
أشهر المشكلات التي تسببت في هذا الوضع، الأزمة بين 4 دول عربية؛ هي السعودية ومصر والإمارات والبحرين مع قطر، ولكن في مناطق أخرى بالشرق الأوسط، وقبل الأزمة الخليجية كانت –وما زالت– العديد من الطائرات مضطرة إلى سلوك خطوط طيران أطول من الطبيعي، لأسباب سياسية وأمنية، حسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأميركية.
الأزمة الخليجية: حصار أضرَّ حتى بالمحاصِرين
تسافر رحلة الخطوط الجوية القطرية، المتجهة من الدوحة إلى العاصمة السودانية الخرطوم، في مسار نصف دائري وتستغرق 5 ساعات ونصف الساعة. وقبل عام، كانت تستغرق الرحلة أقل من ذلك بساعتين، وكانت تسافر في مسارٍ مستقيم عبر المملكة العربية السعودية، لكنَّ ذلك كان قبل أن يقطع السعوديون علاقاتهم مع قطر.
ولَم تتأثر قطر وخطوطها الجوية بالأزمة وحدها، ولكن المصريين المقيمين هناك تأثروا كذلك.
وقدرت غادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي المصرية، عدد أفراد الجالية المصرية في قطر، بين 250 و300 ألف شخص، يتنوع تشكيلها بين مهنيين وعمال وموظفين.
وبعد حظر السفر بين مصر والدوحة، اضطر المصريون المقيمون في قطر إلى السفر ترانزيت لبلادهم ، سواء ذهاباً أو عودة، عبر عدة دول، منها الكويت ولبنان وسلطنة عمان وتركيا؛ مما أدى إلى زيادة التكلفة وتعرضهم للإرهاق جراء السفر لمسافة أطول والتوقف في محطة الترانزيت.
آثار ممتدة لسماوات بعيدة: إسرائيل أصبحت أقرب للهند
مشكلة السماوات المغلقة في الشرق الأوسط تمتد إلى مناطق بعيدة، فالمسافرون من مدينة مومباي الهندية إلى تل أبيب بإسرائيل سيستغرق الأمر منهم 8 ساعات؛ بسبب تجنُّب الطائرة المرور في أجواء السعودية واليمن.
إذ لا يزال المجال الجوي فوق الكثير من الدول العربية والإسلامية مغلقاً في وجه شركة العال الإسرائيلية.
وفي الوقت نفسه، لا تستطيع شركات الطيران الكبرى في المنطقة، مثل "طيران الإمارات" أو "الاتحاد للطيران" أو "الخطوط القطرية"، التحليق فوق إسرائيل في أثناء توجّه رحلاتها غرباً إلى الوجهات الأوروبية وغيرها.
وهذا الالتفاف كان نتيجة للصراع الأطول والأصعب في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين بحسب الصحيفة الأميركية.
ولكن الأمر يبدو أنه قد يتغير الآن، فبعد نفي سعودي وتأكيد إعلامي إسرائيلي، جاء إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فِي 25 مارس/آذار 2017، أن السعودية سمحت لشركة الطيران الوطنية الهندية ( الخطوط الجوية الهندية) باستخدام مجالها الجوي لتسيير رحلات عبر مسارات جديدة من وإلى تل أبيب، وهو الأمر الذي سيقلص وقت الرحلات.
وقال نتنياهو في مستهل جلسة لحكومته، إعلانه موافقة السلطات السعودية على إطلاق شركة الخطوط الهندية "إير إنديا" رحلة جوية مباشرة وصلت لإسرائيل قبل عدة أيام لأول مرة، في إطار الخط المباشر الذي يربط الهند بتل أبيب، واصفاً ذلك بـ"المناسبة التاريخية على المدى البعيد"، وأنه حدث له تداعيات "هائلة"، وجاء بعد عمل طويل وراء الكواليس، حسب ما نُقل عنه.
وقال: "آمل أن يكون هدفنا المنشود أن تشمل الرحلات الجوية المقبلة كذلك إطلاق خط الطيران المباشر من تل أبيب إلى مومباي في غضون 5 ساعات، أي بفترة تقل عن الفترة التى يستغرقها السفر من تل أبيب إلى لندن".
وأضاف قائلاً إن "أهمية ذلك واضحة للجميع، حيث تحمل طابعاً سياحياً واقتصادياً وتكنولوجيّاً وسياسياً"، معتبراً أن الاقتصاد الإسرائيلي سينمو بطريقتين؛ إما من خلال المنتجات الجديدة أو الأسواق الجديدة".
وكانت تلك هي المرة الأولى التي تسمح فيها السعودية لرحلة طيران تجارية متجهة إلى إسرائيل بالعبور في مجالها الجوي، وهو دليلٌ على كلٍ من التقارب الضمني بين البلدين، وأيضاً النفوذ الإقليمي المتنامي للهند، حسب The Wall Street Journal
وقال دوري غولد، رئيس مركز القدس للشؤون العامة والذي كان يشغل حتى عام 2016 منصب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية: "إنَّ عدداً من شركات الطيران الآسيوية الأخرى مهتمة بأن تحذو حذو الشركة الهندية الآن، لدرجة أنَّه قد تنشأ طرق طيرانٍ أكثر كفاءة في استهلاك الوقود إلى إسرائيل".
وتابع: "توسعت التجارة الإسرائيلية مع الشرق الأقصى بصورة ضخمة، وللحفاظ عليها، تحتاج إلى طرق طيرانٍ كافية".
تداعيات متناقضة: ليس كل الإسرائيليين سعداء بالقرار
القرار لم يسعد كل الإسرائيليين، وتحديداً شركة الطيران الإسرائيلية "العال"؛ إذ يشمل القرار، الذي لم تؤكده الرياض، طائرات الشركة الهندية، بينما تبقى شركات الطيران الإسرائيلية والسعودية ممنوعة من التحليق في المجال الجوي لكلٍ منهما الآخر.
ومن ثم، فالرحلة التابعة لشركة العال الإسرائيلية ستستغرق 8 ساعات؛ بسبب تجنُّب الطائرة المرور في أجواء السعودية واليمن. لكنَّ المسار المباشر الذي سوف تستخدمه الشركة الهندية، من شأنه أن يستغرق نحو 5 ساعات فقط.
وبالفعل، قاد هذا التمييز إلى احتجاجاتٍ من شركة العال، التي تخشى أن تعجز عن المنافسة إن تعرَّضت مسارات طيرانها الآسيوية المُربِحة، للمنافسة من الشركات التي توفر رحلات طيران أرخص، والأهم، أقصر بكثير.
المسار الجديد لن يَعبُر السعودية فقط بل أيضاً سلطة عُمان، ما يجعله وفقاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، "تطوراً" ضخماً له تداعيات جيوسياسية.
الدولة المحظورة: هناك طيران جريء وحده يعبر أجواءها
مع استمرار الحرب السورية الدائرة منذ 7 سنوات، لا يزال المجال الجوي للبلاد محظوراً بالنسبة لمعظم شركات الطيران الدولية، مع استثناءٍ جدير بالملاحظة للناقل الوطني اللبناني الجريء، شركة طيران الشرق الأوسط، حسب The Wall Street Journal.
عندما نضيف إلى ذلك، اضطرابات حركة الرحلات الجوية المرتبطة بالحروب فوق كلٍ من العراق واليمن، والصراع الأخير بين قطر والبلدان العربية الأربعة– فإننا نكتشف أن مناطق قليلة في العالم منقسمة وممزقة؛ بسبب حروب المجالات الجوية بالقدر نفسه الموجود في الشرق الأوسط، حسب أوليفر لامب، العضو المنتدب بشركة أيليفيون باسيفيك أفياشن لاستشارات الطيران.
ويُكبِّد إغلاق المجال الجوي اقتصادات المنطقة (وشركات الطيران) تكاليف باهظة؛ لأنَّ السفر يستغرق فترة أطول ويصبح أكثر تكلفةً؛ بسبب تزايد تكاليف الوقود.
على سبيل المثال، عادةً ما تأخذ رحلات شركة طيران الإمارات من دبي إلى بيروت، وهو خط طيران واسع الانتشار، مساراً على شكل الحرف اللاتيني "J"؛ لأنَّها تتجه إلى مصر غرباً وتنحرف بحدة جهة اليمين فوق شبه جزيرة سيناء ثُمَّ تتجه يميناً من جديد بمجرد أن تتخطى إسرائيل.
وهذا يعني زيادة بمقدار ساعة على الأقل مقارنةً بالطريق المباشر الذي اعتادت شركة طيران الإمارات أن تسلكه من قبلُ فوق الأجواء السورية قبل أن تبدأ الحرب هناك.
ليس الشرق الأوسط فقط: عندما تمزق السياسة سماء الصين الواحدة
ليست طرق الطيران التي تفتقر إلى المنطقية، سمة تميز الشرق الأوسط وحده؛ إذ تشتهر الصين بفرضها قيوداً تغلق معظم المجال الجوي في البلاد أمام حركة الطيران التجاري.
تتبنى بكين سياسة "الصين الواحدة" التي تتلخص في الاعتراف بالموقف الصيني القائل إن هناك صيناً واحدة فقط في العالم، وإن تايوان جزء لا يتجزأ من هذه الصين.
وبموجب هذه السياسة، تقيم الولايات المتحدة وأغلب دول العالم علاقات رسمية مع الصين الشعبية وليس مع تايوان، التي تعتبرها الصين إقليماً متمرداً لا بد أن يعود يوماً إلى كنف الوطن الأم.
وحتى عام 2008، كان على رحلات الطيران بين البر الرئيسي للصين وتايوان أن تمر عبر المجال الجوي لهونغ كونغ، أي ما يقرب من ضعف زمن الرحلات بين شنغهاي وتايوان.
ولكن، يبدو أن الأمور انفرجت قليلاً أو هدأت على الأقل في الصين وتأزمت بالشرق الأوسط.
دبلوماسية السموات المفتوحة: أقل إثارة للاستياء الشعبي
مثلما يكون إغلاق السموات أداة سريعة بأيدي الحكومات في أثناء توتر العلاقات، فإن فتح المجال الجوي قد يكون أيضاً واحداً من أسهل الخطوات التي يمكن للدول اتخاذها عند سعيها لإنهاء الخلافات القديمة.
فهو نوع من التقارب يظل غير ملحوظ بدرجة كبيرة من السكان –عكس زيارات السياح أو التجارة على سبيل المثال– ولا يثير أيضاً الكثير من المشاعر.
وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة تدفع باتجاه فتح المجال الجوي كوسيلة لبناء الثقة بين إسرائيل وملكيات الخليج مثل السعودية والإمارات، حسب The Wall Street Journal.
وهناك سابقة لذلك؛ ففي أغسطس/آب 1994، وقبل أشهر من توقيع إسرائيل والأردن معاهدة للسلام وفتح حدودهما، سُمِح لطائرة أردنية من طراز "بوينغ 727" بالتحليق فوق تل أبيب والقدس في طريقها من لندن إلى عمَّان.
المفاجأة أن الطيار كان العاهل الأردني السابق، الملك حسين، وتم بث المحادثة التي خاضها، عبر الراديو، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، مباشرةً، في جميع أنحاء العالم.