رغم المهمة الإنسانية الخطرة التي كان الكابتن مارك ريغ ورجاله يقومون بها لإنقاذ المهاجرين العالقين في البحر خلال رحلتهم إلى أوروبا، إلا أنهم أصبحوا مكروهين من قبل كثيرين، وتعرضوا للملاحقة من الشرطة، بل واعتقالهم أيضاً.
وقاد مارك ريغ مراراً مركب إنقاذ المهاجرين الذي سُمي بـ"أوبن آرمز"، وحالياً ترسو سفينته في ميناء بوتسالو بجزيرة صقلية الجنوبية في إيطاليا، ولا يُعكِّر صفوها سوى فقط الأمواج التي ترتطم بهيكلها بلطف.
وعندما أنقذت سفينة ريغ التي تُشغِّلها المنظمة الخيرية الإسبانية برو آكتيفا أوبن آرمز، 218 مهاجراً يائساً كانوا يحاولون عبور مياه البحر المتوسط، في شهر مارس/آذار 2018، بدا ذلك وكأن تلك عملية روتينية تقوم بها السفينة، ولكن ما حدث بعد ذلك لم يكن أمراً اعتيادياً، فبمجرد أن رست السفينة بميناء بوتسالو في إيطاليا، احتشد العشرات من رجال الشرطة لاعتقالهم، بحسب ما ذكرته صحيفة "الغارديان" البريطانية.
وأشارت الصحيفة إلى أن الشرطة أجبرت من في السفينة على النزول منها، واحتجزتها الشرطة وخضع ثلاثة أفراد من طاقمها للتحقيق، واتهمهم المدعي العام لمدينة كاتانيا الإيطالية، كارميلو زوكارو، برفض تسليم المهاجرين إلى حرس السواحل الليبي، وتمكين عملية الهجرة غير الشرعية.
وظلَّت السفينة التي يبلغ عرضها 37 متراً راسيةً، في ميناء بوتسالو تنتظر الحكم القضائي بشأن مصيرها، بينما احتفل الإيطاليون باحتجاز السفينة لأنهم لم يعودوا يرغبون في أن تُوفِّر بلادهم ملجأً للمهاجرين.
وفي السنوات الثلاث الأخيرة، عبر أكثر من 5 آلاف مهاجر البحر المتوسط على متن السفينة التي تديرها المنظمة غير الحكومية، التي تقوم بدورياتها في منطقة خارج المياه الإقليمية الليبية.
اتهامات بتهريب البشر
وقال تقرير "الغارديان" إن السفينة يبدو أنها أصبحت رهينةً سياسية في بلدٍ ينظر الكثيرون فيه إلى المهاجرين على أنهم غزاةٌ مُتطفِّلون، حيث أصبحت قضية المهاجرين خطيرة في أعقاب الانتخابات التي جرت بألمانيا خلال شهر، مارس/آذار 2018، التي شهدت اندفاعاً قوياً لدعم الأحزاب المعادية للمهاجرين.
وفي 3 فبراير/شباط، أطلق أحد الفاشيين الجدد النار على 6 أفارقة بمدينة ماشيراتا، ما أدى إلى إصابتهم، وبعد عدة أيام تعهَّدَت أحزابٌ يمينية بطرد 600 ألف مهاجر خارج البلاد في حالة انتخابهم. ولذلك يُعتَبَر أي شخصٍ يساعد المهاجرين عدواً ومسؤولاً عن المساعدة في تهريب البشر، وتلك هي التهمة المُوجَّهة ضد كابتن سفينة أوبن آرمز الإسباني.
وبعد التحقيقات أُطلق سراح أكثر من نصف طاقم ريغ المُكوَّن من 19 شخصاً وعادوا إلى منازلهم، أما ريغ (42 عاماً)، فيقضي أغلب وقته الآن في حجرة سفينته، وتلاحقه أحداث تلك الليلة المثيرة التي وقعت عندما أنقذت سفينته المهاجرين، وعلى الفور تصدى لهم حرس السواحل الليبي، مُهدِّدين بقتل الطاقم إن لم يُسلِّموا المهاجرين.
وقال ريغ لصحيفة "ذا أوبزرفر" البريطانية: "جرى كل ذلك في غضون بضع دقائق. كنَّا قد أنقذنا للتو 218 شخصاً، حينما وصلت سفينة حرس السواحل الليبي. أخبرونا أنه يجب تسليم المهاجرين وإلا سيطلقون النيران علينا".
واتصلت السلطات الإيطالية بطاقم سفينة أوبن آرمز، ونصحتهم بترك المهاجرين لليبيين، لأن طرابلس هي المسؤولة عن نطاق الإنقاذ في هذه المنطقة من البحر حسبما قالوا، لكن ريغ قال إن ذلك غير صحيح، لأن إيطاليا وليبيا أعلنتا تبعية نطاق الإنقاذ الليبي لطرف واحد أثناء فترة أعياد الميلاد، ولكن المنظمة البحرية الدولية لم تصدر إخطاراً بذلك. إضافةً إلى أن عملية الإنقاذ جرت في المياه الدولية، وبالتالي فإن أوامر حرس السواحل الليبي لم تكن إلزامية.
ورأى ريغ أن قانون البحر واضح: تقع المسؤولية على من ينقذ السفينة أولاً، ويضيف: "في تلك اللحظة بالضبط فكَّرت في عشرات السفن الخالية التي وجدناها في البحر على مدار الشهور الأخيرة، وأُلقِيَ القبض على المهاجرين الذين كانوا على متن السفينة، وجرى ترحيلهم إلى طرابلس. تحدَّث اللاجئون الذين أنقذناهم عن عذابٍ لا يمكن تخيله. قالوا إنهم يُفضِّلون الموت على العودة إلى ليبيا".
ويروي ريغ كيف أن البنادق الليبية، ظلَّت مُوجَّهةً إلى طاقمه، حتى اضطر للعودة إلى الشمال باتجاه صقلية.
"لست بطلاً"
وإذا كان البعض في إيطاليا يفرحون باحتجاز سفينة ريغ، فهناك قطاعٌ آخر يُمجِّدون ما قام به ويرسلون إليه لدعمه، كما أنه يُعتبر بطلاً بنظر اللاجئين، لكن ريغ يرفض وصفه بالبطل قائلاً: "إن الأبطال الحقيقيين هم من يعبرون الصحراء لأعوامٍ ويواجهون التعذيب والاضطهاد، أولئك الذين من أجل الوصول إلى أوروبا وعدم العودة إلى ليبيا يرمون بأنفسهم في بحرٍ لا يمكنهم حتى السباحة فيه".
وقالت أنابيل مونتيس، منسقة مهمة الإنقاذ: "إذا كنا تركناهم لليبيين لما كنا سامحنا أنفسنا قط"، فيما قال ريكاردو غاتي، رئيس مهمة أوبن آرمز: "كنا ضحايا هجوم مسلح، ولكن خضعنا للمحاكمة، وحدث كل ذلك عقب أسبوع من الانتخابات وانتصار الأحزاب اليمينية في إيطاليا. ولا يبدو ذلك من قبيل الصدفة".
وفي صباح اليوم التالي لما حدث، كتب ماتيو سالفيني، رئيس الرابطة الشمالية اليمينية المتطرفة، في حسابه على تويتر: "أخيراً يتصدى المدعي الإيطالي لعمليات تهريب البشر".
وحصل سالفيني، الذي شنَّ حملةً انتخابية، تعد بفرض قوانين أكثر صرامةً على المهاجرين، على 18% تقريباً من الأصوات، وأصبح رئيس حزب يمين الوسط بلا منازع. لكن موقف إيطاليا المُتعصِّب بدأ قبل انتخابه.
كيف بدأت إيطاليا بإجراءاتها ضد المهاجرين؟
بعد حادثة غرق سفينة للمهاجرين، في 3 أكتوبر/تشرين الثاني 2013، عندما لقي 368 شخصاً مصرعهم إثر اندلاع النيران في قاربهم، على بعد أميال قليلة من جزيرة لامبيدوسا الإيطالية، أعلنت إيطاليا الحرب على مُهرِّبي البشر. وكان الهدف هو إلقاء القبض على المُهرِّبين الذين ينظمون عمليات عبور المهاجرين وحمايتهم.
وهكذا وُلِدَت عملية ميرنوسترم الجوية البحرية التي استمرت طوال العام. وأثناء العملية، وصل 150 مهاجراً بأمانٍ إلى إيطاليا قبل التحرك إلى وجهات في جميع أنحاء أوروبا"، لكن لسوء الحظ أغضبت العملية بعض البلاد على رأسهم فرنسا والنمسا وسويسرا، الذين بدأوا في طرد المهاجرين وإعادتهم إلى السلطات الإيطالية.
ووجد اللاجئون الذين أُنقِذوا في البحر، أنفسهم عالقين في إيطاليا، وبدأت دول الاستقبال تتراجع من الشمال إلى الجنوب، وعندها بدأ الإيطاليون في الشكوى من الآف المهاجرين المحصورين في مدنهم.
وقال فولفيو فاساليو، خبير قانون اللجوء بجامعة باليرمو: "عام 2015، بدأ النهج الإيطالي يتغيَّر، وحلَّت هيئة فرونتكس الأكثر استبدادية محل مشروع ميرنوسترم، التي لم يكن هدفها الرئيسي هو إنقاذ الأرواح بل السيطرة على الحدود. وبدأت ملاحقة مُهرِّبي البشر تفقد هدفها الإنساني وتحل مشاعر التعصُّب محلها".
وكان وزير الداخلية الإيطالي، ماركو مينيتي، اقترح مُدوَّنة قواعد سلوك على المنظمات الخيرية تشمل الالتزام باصطحاب ضباط شرطة مُسلَّحين على متن السفن، وذلك خوفاً من مساعدة المنظمات غير الحكومية لمُهرِّبي البشر من شمال إفريقيا، وهو ما قد يُعد أمراً غير أخلاقي.
وقال فاساليو في تعليقه على تلك المدونة: "كانت الرسالة واضحة، أصبحت المنظمات غير الحكومية مشكلةً أمام الدول الأوروبية. إنهم لا يكتفون باستمرار إرسال المهاجرين إليهم فحسب، بل شهدوا أيضاً الظلم الذي ارتكبته السلطات الليبية. فكان ربطهم بالمُهرِّبين بمثابة حجة للتخلُّص منهم".
حادثة مشابهة لما حصل مع ريغ
ولم يكن الكابتن ريغ الأوروبي الوحيد الذي تعرض للعقوبة بسبب مساعدته للمهاجرين واللاجئين، للوصول إلى أوروبا، فقد أُدين الصحفي السويدي فريدريك أونفال، في فبراير/شباط 2017، بتهمة تهريب البشر، لمساعدته قاصراً سوريّاً مهاجراً على الدخول إلى السويد.
ففي ربيع 2014، كان الصحفي أونفال يصور فيلماً وثائقياً حول رد فعل الأحزاب القومية الأوروبية، في أزمة الهجرة، عندما التقى القاصر السوري (15 عاماً) في اليونان.
وساعد أونفال (43 عاماً) وزملاؤه الصبي السوري "عابد"، وهو ليس اسمه الحقيقي، على الدخول إلى السويد. وكان "عابد" يسافر وحده وطلب من أونفال مساعدته في دخول السويد؛ للالتحاق بقريبه.
وصرح الصحفي، في مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية ببلدة مالمو الجنوبية، قبل بدء محاكمته: "لم يستغرق الأمر سوى 10 إلى 15 دقيقة لكي يدور هذا السؤال في ذهني وأفهم ما يطلبه مني وأتَّخذ قراري".
وأضاف: "أصبح كل شيء أكثر وضوحاً عندما وصلت إلى هذا السؤال: ما القرار الذي يستطيع أن يريح ضميري مستقبلاً؟".
وكان محامو الصحفي طالبوا ببراءته، استناداً إلى أنه تصرَّف من منطلق التعاطف والقلق على مصير الصبي، لكن محكمة مالمو الابتدائية وجدت أنه مذنب بتهريب البشر، وحُكم عليه بتقديم خدمة اجتماعية لمدة 75 ساعة مع وقف التنفيذ.
وأشارت المحكمة إلى أن فريق الصحفيين قام بفعلته، انطلاقاً من أسباب إنسانية بحتة، إلا أن "القانون لا يترك مجالاً لتبرئة شخص لهذا السبب".