في الوقت الذي تجري به الانتخابات الرئاسية المصرية، وتمتلئ شوارع وساحات مصر بصور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كان منافسوه يقبعون في السجون، ووسائل الإعلام موضوعة في جيبه، فضلاً عن أنَّ المرشح الوحيد الذي نافسه –وهو سياسي مُبهَم جداً – لم يُكبِّد نفسه عناء إقامة حملة انتخابية.
وتساءلت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير لها عن أسباب التصرفات التي قام بها السيسي قبل الانتخابات الرئاسية والتي بدت متوترة على نحو غريب، رغم أنه كان مطمئناً لنتائج الانتخابات، وجميع الظروف المحيطة به تخلو من المخاطر عليه.
وأشارت الصحيفة إلى بعض من الإجراءات التي اتخذها السيسي، ومن بينها إقالة رئيس هيئة أركان الجيش، محمد حجازي، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، ورئيس المخابرات العامة، اللواء خالد فوزي في يناير/كانون الثاني الماضي. بالإضافة إلى استخدام السيسي لهجة غاضبة لم تخلُ من الوعيد لمن اعتبرهم أعداءً إذا ترشحوا للانتخابات.
لماذا تصرَّف السيسي كما لو كان رجلاً لديه شيءٌ يخسره؟
قال أنور السادات، وهو الرجل الذي انسحب من السباق الانتخابي في يناير/كانون الثاني بسبب خشيته على سلامة العاملين بحملته، إنَّ "الأمر مثيرٌ للحيرة كثيراً. فكل شيء في قبضة السيسي. لماذا الخوف إذاً؟".
ويرى خبراء ودبلوماسيون في القاهرة أنَّ السبب يكمن داخل حدود السلطة الحقيقية في مصر؛ أي الجيش والأجهزة الأمنية التي تُشكِّل حجر الأساس لسلطة السيسي.
وأشارت "نيويورك تايمز" إلى أنه على الرغم من الانتخابات التي جرت وبدت كمجرد تصديقٍ مُرتَّب ومُدبَّر من وراء الستار على سلطة السيسي، إلا أنها كشفت عن أصوات استياء داخل المؤسسة الأمنية بدا أنَّها تزعج الرئيس الحالي.
وهذا الانزعاج بدأت بوادره عندما تقدَّم الجنرالان السابقان بالجيش لمنافسته، وهما سامي عنان، والفريق أحمد شفيق، لكنَّه سرعان ما أفشل محاولتيهما، ويقبع حالياً عنان في السجن، فيما تراجع شفيق عن طموحه.
وأثار رد الفعل القاسي من السيسي على ترشح الرجلين التكهُّنات بأنَّهما كانا يتمتعان بدعم جزءٍ من المؤسسة الأمنية، وهو قدرٌ ضئيل من المعارضة وَجَد السيسي أنَّه لا يُحتَمَله.
تعزيز موقع السيسي عسكرياً
ولم يكن ترشح الجنرالين المتقاعدين أمراً مفاجئاً. لكنهما هذه المرة وجَّها انتقاداً علنياً نادراً للسيسي، واقترحا تخفيف قيود حكمه القاسي، إذ قال شفيق في رسالته التي أعلنها في مقطع فيديو لإطلاق حملته نشره على موقع تويتر: "الديمقراطية الحقة والحقوق الإنسانية الطبيعية ليست منحة من أحد".
في حين مدَّ عنان غصن زيتون إلى الشباب الثوريين الذين ساعدوا على إطاحة الرئيس حسني مبارك في 2011 وطاردهم السيسي، واتُّهِم عنان بانتهاك القواعد العسكرية وزُجَّ به في السجن، حيث يقول مساعدوه إنَّه خضع للاستجواب من جانب ضباط جيش ملثمين.
أما المرشح الثالث المرتبط بالجيش، وهو الضابط أحمد قنصوة، والذي خضع لمحاكمةٍ عسكرية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وحُكِم عليه بالسجن ست سنوات، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية.
وقالت ايمي هوثورن الخبيرة في الشؤون المصرية بمشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط: "محاولات ترشّحهما أوضحت للشعب المصري أنَّ السيسي يقوم بعملٍ سيئ، وأنَّ مصر تحتاج قيادة جديدة. هذا مثيرٌ للغاية".
ورفض السيسي فكرة أنَّه دفع المرشحين الآخرين للخروج من السباق، وقال في مقابلةٍ تلفزيونية الثلاثاء 20 مارس/آذار: "ليس خطئي. والله العظيم أنا كنت أتمنى أن يكون معنا مرشح واثنان وعشرة من أفاضل الناس وتختاروا كيفما شئتم. لكنَّنا لسنا جاهزين بعد، وهذا ليس عيباً".
واعتبرت "نيويورك تايمز" أن السيسي كان يسعى من خلال إخراج منافسيه لتعزيز أوراق اعتماده العسكرية. لا سيما عندما أعلن حملةً عسكرية شاملة ضد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سيناء، وارتدى في فبراير/شباط الماضي زيه العسكري القديم لافتتاح مركز قيادة عسكري جديد.
وفي تصريحاتٍ ارتجالية في يناير/كانون الثاني، حذَّر السيسي أنَّ اللعب بأمن مصر سيكون "على جثة الجيش"، وهو التصريح الذي بدا أنَّه مُوجَّه للمنتقدين في الداخل تماماً كما هو مُوجَّه للمسلحين.
فرعون أم مملوك؟
يُشبَّه قادة مصر الحديثة غالباً بالفراعنة؛ أي تصويرهم كقادة ذوي سلطة مطلقة لدولة منضبطة. عزَّز السيسي هذه الصورة، سواءٌ حين وقف متغطرساً في مقدمة قارب يُبحر عبر قناة السويس، أو حين ظهر وفي خلفيته الأهرامات.
لكنَّ البعض يقول إنَّ المقارنة الأكثر ملاءمة هي مع المماليك، وهم طبقة عسكرية حكمت مصر في العصور الوسطى. وعلى مدى ثلاثة قرون تقريباً حكم سلاطين المماليك من قلعة القاهرة، وسيطرتهم اعتمدت على عُصبة من الأتباع الذين تسابقوا على التفوق.
ومن ذات المنظور، رأت الصحيفة الأميركية أن تحت حكم السيسي دائرة ضيقة من الجنرالات والقادة الأمنيين تتمتع بسلطة اقتصادية وسياسية واسعة، وهي تُشرف على الأعمال التجارية السرية والإمبراطوريات الإعلامية، في حين يقمعون أي ملمح للمعارضة.
وأشارت الصحيفة إلى أن عملية فك رموز آليات العمل الداخلية لتلك الدائرة أمرٌ صعب للغاية ويخضع لدراسة وتدقيق من جانب المسؤولين الأجانب تشبه نوعاً ما دراستهم لسياسات الكرملين. لكن بدا أنَّ انتخابات هذا العام أزاحت الغطاء عن التوترات الخفية.
قرارات أثارت غضباً
ومن بين الأمور الأخرى التي يشعر السيسي بالقلق منها، نتائج قرارات اتخذها وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" إنها سببت عدم قبول لدى متنفذين في مصر.
وقال دبلوماسي غربي كبير في القاهرة إنَّ "دور الجيش البارز في إدارة الاقتصاد لا يحظى بقبولٍ لدى رجال الأعمال وبعض ضباط الجيش".
كما قالت هوثورن الخبيرة في الشؤون المصرية مستشهدةً بتقارير إعلامية مصرية إنَّ قرار تسليم جزيرتي تيران وصنافير بالبحر الأحمر إلى السعودية في 2016 لاقى معارضةً من عدة مسؤولين كبار في وزارة الدفاع. وقالت: "أعتقد أنَّ تلك نقطة ضعف للسيسي. وبإمكانه محاولة تجاوزها، لكنَّ الناس لا ينسون".
ومع أنَّ السيسي واجه من قبل حديثاً عن المعارضة – وأفادت تقارير بأنَّ محكمةً عسكرية أدانت 26 ضابطاً في عام 2015 بتهم التآمر للإطاحة به – يقول خبراء إنَّ هناك اعتقاداً بأنَّه يتمتع بدعمٍ قوي في صفوف القيادة العليا بالجيش.
لكنَّهم يشيرون أيضاً إلى أنَّه يُضيِّق دائرته المقربة، مُعتمِداً بصورةٍ أكبر على أسرته. ويُعَد نجله محمود شخصيةً بارزة في جهاز المخابرات العامة، وقام بدور أحد المحاورين في اجتماعاتٍ مع مسؤولين أميركيين في واشنطن. ويعمل نجلٌ آخر له في هيئة قوية لمكافحة الفساد.
واعتبرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن أياً ما كانت شعبية السيسي، فإن الانتخابات التي حصلت لن تكون مؤشراً للاعتماد عليه"، وأشارت أنه كما عثر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جينغ بينغ على طريقةً للالتفاف على حدود فترات الرئاسة، فإن هناك مؤشرات على أنَّ السيسي لديه طموحاتٌ مشابهة.
ففي أغسطس/آب الماضي، اقترح عضو موالٍ للسيسي في البرلمان تعديلاً دستورياً لمد فترات الرئاسة. لكن في نوفمبر/تشرين الثاني شدَّد السيسي على أنَّه لن يسعى لإدخال أية تعديلات.
وقال أنور السادات، السياسي المعارض وابن شقيق الرئيس المصري الراحل الذي يحمل نفس الاسم، إنَّ تحالفاً واسعاً من المجموعات المعارضة بدأ البحث عن مرشحٍ للتنافس في انتخابات 2022، التي يتوقعون مواجهة السيسي فيها مرةً أخرى إذا ما أُدخِلَت التعديلات الدستورية.
وأضاف: "السيسي يكره السياسة، وهذا هو ما نراه في الانتخابات الحالية. ما يقلقني هو ما سيأتي بعد ذلك. هل نحن بصدد رؤية نموذج صيني؟ هذه هي المسألة".