حصل ما حصل، وأقال الرجل الأول في "التصريحات الحمقاء" و"القرارات الارتجالية" ترامب، الرجلَ المعروف في الأوساط العالمية بـ"الرجل الهادئ" أو "رجل المهادنات" تيلرسون، دون علم مسبق منه، كما اجمع العارفون بالشأن الأميركي، ما علمه كان فقط اتصالاً من كبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي يخبره فيه: "ترامب سوف يهينك عبر تدوينة في تويتر" دون توضيحات أكثر.
إصرار ترامب على إهانة وزير خارجيته عبر إعلان إقالته من خلال تويتر وليس كما تنص عليه العادات والأعراف الدبلوماسية عبر مرسوم رئاسي، يؤكد امتعاض ترامب من تيلرسون، وأن العلاقة بين الرجلين وصلت إلى نقطة اللاعودة.
قد يقول البعض: كيف هذا وهو الذي ما فتئ -أي ترامب- يثني عليه وعلى رصانته واتزانه منذ تعيينه؟ هذا لا يحيل بتاتاً إلى أن الرجلين كانا على وفاق تام.
في الحقيقة فإن العكس هو الذي كان واقعاً، فالرئيس ورئيس دبلوماسيته لم يتفقا إلا حول موضوع واحد وهو خفض ميزانية وزارة الخارجية وتقليص عدد موظفيها، ما عدا هذا كانت كل القضايا الساخنة الموضوعة على طاولة الرئاسة تشكل نقاط خلاف بين الرجلين.
بين ترامب وتيلرسون.. خلاف حاد حول القضايا الكبرى
حاول ترامب استباق الأحداث؛ ليغطي حجم الشرخ في العلاقة بينه وبين تيلرسون فيما يخص القضايا الكبرى التي كان يعمل عليها وزير الخارجية وفريقه، وواصل عبر تويتر أيضاً: "كنا متفقين بشكل جيد لكن اختلفنا حول بعض الأمور [..] بالنسبة للاتفاق النووي الإيراني اعتقد أنه رهيب بينما اعتبره -أي تيلرسون- مقبولاً، وأردت إما إلغاءه أو القيام بأمر ما بينما كان موقفه مختلفاً بعض الشيء ولذلك لم نتفق في مواقفنا".
ويريد ترامب هنا أن يذهب إلى أن السبب الرئيسي أو حتى الوحيد الذي جعله يستغني عن خدمات وزير خارجيته بهذه الطريقة هو اختلاف وجهتَي النظر بينهما حول الاتفاق النووي مع إيران، ولكن تصريحات الرجلين المتناقضة تماماً فضحت -وما زالت تفضح- ما حاول ترامب إخفاءه، وهو أن ما يفرق بينهما أكثر بكثير مما يجمع، وهو آخذ في التوسع كلما بقي تيلرسون على رأس وزارة الخارجية.
ففي الوقت الذي كان ترامب يطلق فيه تصريحاته الارتجالية حول ما سمَّاه تمويل قطر للإرهاب، يخرج تيلرسون ليقول: "إن أمير قطر تميم بن حمد حقق تقدماً في كبح تمويل الإرهابيين.."؛ بل ويثمّن تيلرسون صفقة بيع مقاتلات إف 15 الأميركية إلى قطر، والتي أمضى عليها وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بقيمة 12 مليار دولار.. في تناقض صارخ قلّ ما يرى نظيره بين رئيس ووزير خارجيته حول نفس القضية.
و قبل هذا، شهد ملف التزام الولايات المتحدة بقرارات قمة باريس للمناخ (سنة 2015) من عدمه خلافاً كبيراً بين ترامب وتيلرسون، فالأول تعهَّد خلال حملته الانتخابية بإلغاء الاتفاق حال فوزه، وبعد أن تحقق له ذلك اتبع أسلوب المماطلة في إعطاء قرار نهائي حول الموضوع بسبب معارضة قسم كبير من فريقه الحكومي، وعلى رأسهم وزير الخارجية الذي قال: إن الولايات المتحدة "تريد فقط التأكد من أن القرارات التي تتخذ لن تضر بسياستها أو القدرة التنافسية لشركاتها وبشكل عام بنموها الاقتصادي، وإن كل اقتراح بإعادة التفاوض على النص الذي تم التوصل إليه بعد سنوات عدة من المفاوضات الشاقة مرفوض بشكل حازم"، فإذا كان مجرد اقتراح إعادة التفاوض حول قرارات القمة مرفوضاً، فإن وزارة الخارجية تشير إلى أن الإلغاء الذي توعَّد به الرئيس غير وارد تماماً.
فصل آخر من فصول الخلاف بين الرئيس ووزير الخارجية يقودنا إلى شبه الجزيرة الكورية؛ فتليرسون المعروف باعتداله ظل يشدّد على ضرورة الحوار الخريف الفارط، ولكن رئيسه فاجأه "بتغريدة" استهزأ فيها بمساعيه ووجَّه له انتقاداً مباشراً؛ حيث أورد: "لقد أخبرت ريكس تيليرسون، وزير خارجيّتنا الرائع، أنّه يضيّع وقته وهو يحاول التفاوض مع رجل الصواريخ الصغير، ادّخر طاقتك ريكس.. سنقوم بما يجب فعله".
ويرى ترامب أن تيلرسون سيقدم الكثير من التنازلات في حال ما قاد المحادثات مع الزعيم الكوري الشمالي، عكس مايك بومبيو الذي فضَّل تعيينه في الوقت الحالي؛ ليدخل به المفاوضات وهو الذي يرى فيه "قائداً صلباً، هادفاً وفعّالاً يقاسمه مسار أفكاره بشأن القضايا الدوليّة الشاملة التي تواجه أميركا وحلفاءها"، وأنه لن يخذله في تحقيق شعاره: "أميركا قبل كل شيء".
وبعيداً عن إيران وقطر وقمة المناخ والمحادثات مع الزعيم الكوري، ما زالت هناك فصول وفصول في قصة الخلاف بين دونالد ترامب وريكس تيلرسون، بدأ بالعلاقة مع كل من روسيا والصين، وإسناد ملفات ثقيلة يشدد تيلرسون على أنها من صلاحية رئيس الدبلوماسية وفريقه، إلى أشخاص من العائلة ممثلين في إيفانكا ترامب ابنة الرئيس، وزوجها غاريد كوشنر الذي يتابع محادثات السلام في الشرق الأوسط، وخصوصاً القضية الفلسطينية، وليس انتهاء بالخلاف حول معاهدة التجارة الحرة عبر المحيط الهادئ التي انسحبت منها الولايات المتحدة بقرار من ترامب بعد تنصيبه مباشرة رئيساً للبلاد.
أكثر ما يجمع الرجلين هو الخلاف.. فلماذا اُختِيرَ تيلرسون من الأساس؟
قد يتبادر إلى الأذهان تساؤل مُلحّ: "لماذا اختار ترامب، تيلرسون لهذا المنصب الحساس أصلاً، إذا كانا لا يتفقان في شيء تقريبا؟".
بنى دونالد ترامب اختياره لريكس تيلرسون ليشغل منصب وزير الخارجية في فريقه الحكومي انطلاقاً من مسيرة الرجل المهنية، التي كان يرى فيها ترامب "تجسيداً للحلم الأميركي" الذي لطالما تغنّى، وما زال يتغنى به، وعبر تويتر أيضاً، أكد ترامب أن "تيلرسون يعرف كيف يدير مؤسسة عالمية، وهذا أمر مهم جداً لكي تكون إدارة وزارة الخارجية إدارة ناجحة".
واستمر ترامب في إبداء الإعجاب الشديد بمسيرة الرجل وإنجازاته، وما فتئ يعبّر عن ذلك عبر تويتر؛ فقال في تغريدة أخرى: "إن صلابته وخبرته الواسعة وإلمامه بالأمور الجيوسياسية تجعله خياراً ممتازاً لمنصب وزير الخارجية، سيروّج تيلرسون للاستقرار الإقليمي ويركز على المصالح الأساسية للأمن القومي للولايات المتحدة"، أما النقطة الأساسية التي كان يراها ترامب ميزة تيلرسون الرئيسية، وأنها أكثر ما يحب فيه -على حد تعبيره- أنه -أي تيلرسون- "يتمتع بخبرة واسعة في التعامل بنجاح مع مختلف الحكومات الأجنبية وتربطه بها علاقات وثيقة".
وأما مَن أيَّدوا ترامب حول اختيار تيلرسون لهذا المنصب من الجمهوريين، فقد كانوا متفقين مع ترامب في أن تيلرسون "شخص مثير للإعجاب الشديد"، كما قال السيناتور بوب كوركر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، إضافة إلى ذلك فجلّهم كانوا يرون أن تيلرسون بحنكته ورصانته وهدوئه الدبلوماسي سيعمل على الحفاظ على التوازن، خاصة في التعامل مع القضايا الخارجية الساخنة، أمام ارتجالية الرئيس وتسرّعه المفرط في التعامل مع نفس تلك القضايا.
ولكن تسيير شركة حتى وإن كانت أعظم شركة طاقة في العالم كـ"إكسون موبيل" لن يكون تماماً كتسيير وزارة الخارجية في دولة كأميركا.. هنا كانت المشكلة، فتيلرسون واصل تسيير وزارة الخارجية بنفس العقلية، وهو الذي لا يمتلك أي تجارب سياسية سابقة، وهي عقلية تحقيق المكاسب والحفاظ على مصالح شركته مع ضمان الرضا للأطراف الأخرى التي غالباً ما كانت حكومات، منها حكومات دول كبرى كروسيا.
اصطدمت هذه العقلية -المعتدلة- بعقلية الرئيس الأميركي -المتعصب- الذي يرى أن أميركا فوق كل شيء، وأن مصالح أميركا واقتصاد أميركا والأمن القومي لأميركا يأتي قبل كل شيء ودون إقامة أي اعتبار لأي شيء أو لأي كيان، وهذه العقلية المتصلبة لترامب أضرت حتى بالعلاقة مع الكثير من الحلفاء التقليديين لواشنطن.
وبالتالي ومع استمرار الخلافات بين الرجلين، كانت تتشكّل لدى ترامب قناعة بأن تيلرسون ليس الرجل المناسب الذي كان يظنّه، فقرر أخيراً الاستغناء عنه وتعيين رجل يشترك معه في نفس الرؤى المتعصبة التي تضع أميركا فوق الجميع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.