الغوطة الشرقية بصخب يومياتها وأنينها ونوحها وضجيجها، وأوفها الحزينة الطويلة وحنجرتها الجبلية القوية، لا تزال عندنا معزوفة صمت! كأنّ لا صوت فيها ينوح! كأنّ لا طفل فيها يبكي! كأنّ لا أحد فيها يصرخ!
الغوطة الشرقية التي أرادوا لها أن تنتهي مع كلّ فاجعة تحلّ بها فلم تنتهِ يقتحمها الموت بجنوده يومياً وبقوّة.
الغوطة الشرقية، فيلم الرعب الطويل وحكاية الأسى المملّة التي ما فتئت تعرّي إنسانيتنا وتكشف نفاقنا لم تصنّف بعد ضمن تراث الأمم المتحدة العالمي والتاريخي للذين وقع عليهم الظلم والقهر العالمي.
الغوطة الشرقية، جنّة الشرق المريض، وجرح الشام العميق، ما زالت لم تدقّ ناقوس الخطر الدولي! هي فقط تنقر على منبّه الساعة السابعة صباحاً لشعوب لم تشهد في حياتها الفجر وأجّلت وقت نهوضها إلى ما بعد الموت.
الغوطة الشرقية الملتهبة ورواية الألم اللامنتهية معزوفة الصمت العربي ما زال صراخها لم يصل، وما زال العالم يتأمّلها دون حراك، ربّما اكتشف فيها مفتاحاً موسيقياً جديداً يزيد نشوة الاستمتاع لديه.
الغوطة الشرقية مجرّة الأحزان والمآسي التي لم تنفد بعد، ولا تزال تقتحم بيوتنا مع كلّ نشرة أخبار.
يا الله.. ألا زال هنالك شيء يسمّى الغوطة الشرقية؟! اعتقدنا أنها انتهت يوم شنّوا عليها هجوماً كيميائياً، كنا نخالها رحلت يوم سادتها الأمراض والأوبئة والمجاعات، ظننا أنهم محوها يوم حوّلوها إلى معرض لمشاهد تراجيدية تتسابق فيه الطائرات الحربية والأسلحة النارية وقذائف هاون.
الغوطة الشرقية التي فشلت لسنوات في امتحانات الموت الكلّي ورسبت في دورات تكوينه، وما زالت كأشجارها تحترق لتموت واقفة، ما زالت لم تنتهِ ولم تفز بموت كلّي بعد رغم الإبادات.
الغوطة الشرقية حكاية الريف الأسود ومشهد الدخان، حكاية الحصار والقمع والقصف والدمار، حكاية لا تشبه الحكايات.
يا الله.. غابت "أويها" و"زلاغيط" نسوة الشام المتعالية بأفراحها واستبدلت بصراخ الأطفال والأمهات المتناثرة بين النار وتحت الرماد، وما زالت "أوف" تبكي بعمق وحرقة، وما زلت أنا هنا، عيني على الشام وقلبي فيها، أقلّب مواجعه بأبيات عقل وصوت فيروز يناديها:
يا شام عاد الصيف متّئدا وعاد بي الجناح
صرخ الحنين إليك بي أقلع ونادتني الرياح
أصوات أصحابي وعيناها ووعد غد يتاح
كلّ الذين أحبّهم نهبوا رقادي واستراحوا
فأنا هنا جرح الهوى وهناك في وطني جراح
ومتى غاب عنك الصيف يا شام؟ متى غاب؟ لا الصيف عنك رحل ولا هو الشتاء فيك بالرحمة التزم.
يا شام كل عام يعود الشتاء ويعود الثلج ويتجمّد شادي هناك في الوادي، نتفرج على جثته المتجمدة ونخرس، فنحن الشعوب التي تعزّي ضحاياها بدقيقة صمت وتقف على أرواحهم بسنوات الصمت، وتمرّ على جثثهم بالصمت، لا بل على نهج الملاعب أضحينا نمشي، وصرنا نعزيهم بالتصفيق؛ كي لا نشوّش على الطواغيت ونبارك جرائمهم الشنيعة ونضع أيدينا فوق أيديهم.
ومتى غاب عنك الصيف يا شام؟! إنّنا بالصدفة نقلّب أوراق الحروب وعمداً تقلّب هي الحرب مواجعنا، مواجع جعلتنا نتوه في مآسي دنيا صارت أحزاناً تتخللها لحظات فرح خجولة.
نعم، كلّ الذين نحبّهم نهبوا رقادنا واستراحوا في جنة الخلد، وبقينا هنا نتعذّب بذنوبنا وأعيننا وآذاننا.
وها أنا هنا من خشب أشجار ريفك الرمادية أصنع بوجعي ربابة تبكي عليها الأوف والعتابا!
ومتى غاب عنك الصيف يا شام؟ ها أنت اليوم كالربابة بوتر واحد لا أوتار أخرى تشاركك الفاجعة، فبقية الأوتار اختارت أن تفرح بعيداً في حفلات الصباح، وحدها الطواغيت اجتمعت فيك لتقتسم أجساد الأبرياء وتحرّق بساتينك وتردي الغوطة الشرقية رماداً.
أوف.. أوف.. أوف.. أووووووف وأفّ من حياة كهذه!
لم أتصوّر يوماً أن يسجّل التاريخ أمامي مآسيه، لطالما قرأتها في الكتب وشاهدتها في الأفلام والمسلسلات والمعالم وشاهدت شيئاً منها في جسد جدّي، ذاك الجسد الذي سكبت عليه فرنسا غيظها في السجون وظلّ ذاكرة جهادية اكتشفتها قبل أن أبلغ الخمس سنوات ثم ردمها التراب وبقيت لاصقة في مقرّات الذكرى لديّ.
أوف.. أوف.. أوف.. أوووووف وأفّ من شعوب كهذه!
لم أتصوّر أبداً أن أعيش ليوم أتفرّج فيه على شريط دمار الإنسانية على المباشر، لم أتصور يوماً أن معزوفة الصمت الأخرى التي نظمها "جون كيج" هي نحن، الفرق الوحيد بيننا هو أن أصوات بيئتنا صاخبة بالتخاذل واللامبالاة وأنّ مدّة صمتنا فاقت القرون ونحن معزوفة الصمت التي ينصت إليها الطواغيت منذ زمن.
أوف.. أوف.. أوف.. أوووووف وأفّ من قلوب كهذه!
لم أتصوّر إطلاقاً أنّني سأكبر وأعيش ليوم تعمى فيه الأبصار والبصائر والضمائر، وأشاهد البشر متناثرين كأوراق الخريف المحترقة هنا وهناك، لم أتصوّر يوماً أن تبلغ فينا القسوة ما بلغت، وأن نجتاز مسابقة الخذلان بجدارة ونظفر فيها بالمركز الأول!
أوف.. أوف.. أوف.. أوووووف وأفّ من كتابات كهذه!
تمنيت لو كان بإمكاني صياغة أبيات عتاب سورية ترافق وجع الأوف وتصمد إلى الأخير مع آلامه.
تمنيت لو استطعت كتابة وجعي وعتبي وغضبي في أربعة سطور.
تمنّيت لو رافقت أحزان الأوف إلى بيتها. كم تمنيت لو اعتزلت نشرات الأخبار للأبد واعتزلت العالم وأبقيت على جهلي، وكم تمنّيت لو كتبت عن جمال الريف لا رماده!
وما زلت أتساءل لمن أكتب ولمن نكتب جميعاً هذا الوجع، لمن نكتب هذا الغضب؟! إنّنا نكتب للذين لا يقرأون، نكتب للذين لا يسمعون، نكتب للقاسية قلوبهم، للذين لا يفقهون، للذين لا يشعرون، للذين تزعّمونا ولكنهم لا يتحرّكون، كلهم لا يقرأون.
ولأنهم لا يفعلون، نكتب لأننا نرفض أن نقف دقيقة بل سنوات صمت على أرواح ضحايانا، وعلى عكسهم نحن صاخبون بأقلامنا، نحن مثل جماهير كرة القدم صاخبون ولا نحترم دقائق الصمت؛ لهذا قررنا إطلاق صافرات أقلامنا، علّنا بأقلامنا نشوّش على مشروع إبادة شعب كامل، علّنا بأقلامنا نقلّم ذنوبنا، علّنا بأقلامنا نفرّغ سموم غضبنا ونخفف وخز الثورة التي حوّلت قلوبنا إلى ملعب أولمبي تتسابق فيه الآلام.
سئمنا اختبارات التحمّل هذه، سئمنا ماراثون الأحزان هذا الذي لا ينتهي، سئمنا دورات البؤس هذه التي لا تموت، سئمنا أفراحنا وابتسامتنا المحتشمة، سئمنا حياة النفاق الجغرافي، سئمنا السلام الكاذب المزوّر، سئمنا العيش في ضفة الأمن البخيل بينما النار تلتهب في ضفافنا الأخرى.
سئمنا التفرّج على أشلاء الأبرياء وكم سئمنا البكاء المستمرّ على عجزنا، سئمنا ضجيج الحزن وحياة الألم المنفصل عنّا جغرافياً، المتصّل بنا روحياً، سئمنا كتابات الحزن هذه التي سيسجّلها التاريخ.
– تم نشر هذه التدوينة في موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.