الحرب الدافئة

وتسليمُ الجمل بما حملَ في العراق يؤكد أن التخبط الأميركي في أوجه، وهذا ما يفسر ظهور داعش وإمكانية ظهور تنظيمات وتشكيلات أخرى، فمن لا يعرف حجم العداء بين المجتمع العربي السنّي والنظام الإيراني لا يعرف بالطبع مخاطر تسليم ملايين الأشخاص لعدوّهم وإلزامهم بالسمع والطاعة والسكين على نحورهم.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/10 الساعة 01:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/10 الساعة 01:34 بتوقيت غرينتش

العراق إحدى أبرز محطات التحوّل في شكل المنطقة سياسياً واستراتيجياً، فهو نقطة التقاء الفرقاء ومحط أنظار أطماعهم والمثير للجدل بسبب تنوّعه القومي والمذهبي، فضلاً عن موارده غير المستثمرة، بالإضافة إلى مساحة تأثيره عربياً ودولياً، لا سيما بين دول الشرق الأوسط، فبعد غزو العراق واحتلاله عام 2003 من قِبَل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، وفي مقدمتهم بريطانيا، وإسقاط نظام الحكم فيه، دون وجود أي خطة تُذكر لطريقة التعامل مع شعبه، أو خارطة طريق لحُكمه، ما خلّف فوضى عارمة وأضرمَ ناراً مستعرة لا تزال ألسنتها تحرق ما تبقى من الجسد العراقي، بعد أن قطعت أوصاله على أساس ديني وطائفي وقومي؛ لتخرجَ الأمور عن سيطرة واشنطن، وتصبح طهران الرابح الأكبر، بالرغم من أنها ليست لاعباً أساسياً في الحرب على العراق.

الحرب الطائفية والعمل على إيجاد توازن بين قوى الصراع الداخلي أحد الأساليب الهزيلة التي عملت عليها الولايات المتحدة، فمن كان يعتقد أن خطأ الإدارة الأميركية الأكبر هو باجتياح العراق فقط عليه إعادة حساباته، واشنطن تعاملت بغباء وسذاجة مع الفصائل المسلحة (السنّية) المناهضة لوجودها على الأرض العراقية، فالمجيء بجيمس ستيل، الخبير بالحروب القذرة وإنشائها لبذرة الميليشيات الرسمية عبر فصائل مغاوير الداخلية، كانت نقطة تحول كبيرة لصالح إيران ونفوذها في العراق؛ إذ تمت إناطة مهمة التجنيد والقيادة لفيلق بدر المؤسَّس في إيران، وسبق لعناصره القتال لسنوات إلى جانب الخميني ضد العراق، إضافة إلى تطويع عناصر بميول طائفية في صفوف تلك القوات، ما جعل ردم الفجوة بين الحكومة والسنّة صعباً جداً، لا سيما بعد شروع تلك القوات إلى جانب ميليشيات مدنية كجيش المهدي بقتل وخطف الكثير من الرجال على أساس طائفي، بحجة مناهضة الوجود الأميركي وضرب القوات الأميركية المحتلة؛ إذ كان وزير الداخلية في الفترة الأكثر دمويةً على المستوى الطائفي بالعراق بيان جبر صولاغ، يلقّب بـ(صولاغ دريل)، والدريل هي آلة ثقب كهربائية كانت تُستخدم في السجون والمعتقلات لثقب أجساد المعتقلين أثناء التعذيب قبل رميهم في مكبات النفايات بعد قتلهم.

هذه الأحداث وما أعقبها كانت تحدث تحت مرأى ومسمع الجيش الأميركي، وكلّ التقارير كانت تصل حول ما يدور في الشارع ودهاليز الحكومة، وبعد أن أيقنت أميركا بفشلها عقدت صفقة مع الحكومة والبرلمان تضمن لها التدخل العسكري وقتما تشاء بحجة الحماية، والأهم من ذلك تُلزم العراق بشراء الأسلحة وأخذ الخدمات والخبرات العسكرية منها، وما فعله أوباما يفسّر ما كان يفعله وزير خارجيته جون كيري بسفراته ومغازلاته المتكررة لإيران، وكأنه يقول: إنّ كل شيء يرخص لعيون النسيب بعد أن زوَّجَ ابنته لرجل إيراني، حتى امتلاك طهران للسلاح والمفاعل النووي كان أمراً طبيعياً بالنسبة لإدارة أوباما الغريبة الأطوار فيما يخص الملف الإيراني.

وتسليمُ الجمل بما حملَ في العراق يؤكد أن التخبط الأميركي في أوجه، وهذا ما يفسر ظهور داعش وإمكانية ظهور تنظيمات وتشكيلات أخرى، فمن لا يعرف حجم العداء بين المجتمع العربي السنّي والنظام الإيراني لا يعرف بالطبع مخاطر تسليم ملايين الأشخاص لعدوّهم وإلزامهم بالسمع والطاعة والسكين على نحورهم.

وبعد إفصاح طهران عن مشاريعها في المنطقة ونقل الدبّ الروسي اهتماماته من المناطق الباردة إلى المناطق الأكثر دفئاً لا سيما في سوريا وقواعدها البحرية والجوية وعلى الأرض هناك، استشعر رعاة البقر أخيراً الخطرَ المحدق بهم، بالرغم من أن ذلك الخطر بات على أسوار أصدقائهم في المنطقة، هذه الصحوة المتأخرة سيكون مردودها كغيرها من الصراعات الأخرى حروباً بالوكالة، وإن اختلفت أساليب تلك الحروب وأدواتها، فالانتقال من الصراع المذهبي والقومي إلى صراع النفوذ والأجندات سيتطلب وجوداً على الأرض، وبعد أن تحققّ ذلك بالنسبة لخصومها واختلطت القوات الموالية لها بين القوات الرسمية العراقية والعمل السياسي كخطة للسيطرة على جميع مفاصل الدولة لم يتبقَّ أمام واشنطن التي صار واضحاً أن وزيرَي دفاعها وخارجيتها المحنّكين في وادٍ ورئيسها التاجر المغرور في وادٍ آخر، ما تبقّى أمامها وهي من عملت لسنوات وحاربت لأجل السيطرة على العراق سوى العودة من جديد، والعمل على الأرض فيما بقي من وقت ضائع لضبط الإيقاع وإحداث توازن على مستوى القرار والاقتصاد.

لكن تلك العودة باتت خجولة جداً؛ حيث لا إعلانَ رسمياً حتى الآن سوى بعض التصريحات من وزير الدفاع أو محاولات لإدخال حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى دائرة الصراع، بعد أن باتت شبه وحيدة في الملف العراقي؛ إذ ينشغل الأصدقاء بحرب البسوس في اليمن والصراعات الداخلية الأخرى بين دوله، فيما يبدو أن بريطانيا ليست مستعدة لأية مواجهة، بعد جهود التعافي من حرب العراق والاستقلال عن الاتحاد الأوروبي.

بينما يبدو خيار التصالح مع تركيا أحدَ أفضل الحلول لإحداث توازن في المناطق التي شهدت تغييرات كبيرة، بعد الحرب على داعش، من جانب آخر سيتطلب الأمر الحديثَ مع الشريك البريطاني لإقناعه من أجل كسب أتباعه في مناطق أخرى من البلاد.

ويبدو أن أمام الولايات المتحدة عملاً شاقاً لترتيب أوراقها من جديد، فالعودة قوبلت باستقبال عكس المتوقع، فقد صوّت البرلمان قبل أيام على انتهاء سنواته الأربع وانتخاب برلمان جديد على وضْع جدولةٍ لمغادرة القوات الأجنبية العراق، سبقها إعلان وزير الخارجية نية العراق شراء منظومة "إس – 400" الروسية للدفاع الجوي؛ حيث تسعى روسيا لتجهيز عدد من دول المنطقة بهذه المنظومة، الأمر الذي أثار حفيظة واشنطن، فمن بين تلك الدول حليفتها بالناتو تركيا والحليف الاستراتيجي السعودي، بعد أن بان للعيان تخلّي الولايات المتحدة عن حلفائها منذ عهد أوباما واستمراراً بعهد ترامب، في وقت تلعب فيه إيران دوراً محورياً لفصائلها وأجنداتها المتوزعة في محيطها والمنطقة، ما ينعش دور حليفتها موسكو التي تطمح لتعزيز دورها في مناطق كانت بالأمس القريب ساحة نفوذ خاص بندّها الأميركي.

وفي ظل تغيّر معطيات وخصوم الصراع يظهر أننا مقبلون على حرب نفوذ وأجندات، وليس حرب طوائف وقوميات، ولكنها تشبهها من جهة أن العراق لم يخرج حتى الآن من مطحنة حروب الوكالة، فهل سيتأقلم الدبّ الروسي مع الأجواء العراقية؟ وهل سيجد راعي البقر الأميركي أجواء تناسبه بعد تبدلات الطقس، لا سيما فيما يتعلق بأجواء الأحزاب والعملية السياسية التي تحوّلت بوصلة رياحها نحو بلاد البياض والجمال، بعد اضطراب المناخ الأميركي وعدم وثوق الأصدقاء قبل غيرهم بتحولات أجوائه، أم أنّ أميركا جادة هذه المرة أكثر من أي وقت مضى من السنوات العشر الأخيرة بتثبيت أقدامها كما كشف البنتاغون عن خطة عمل بوجود طويل الأمد مع الناتو؛ للعمل في العراق؟!

لكن كل تلك الخطط والمشاريع لن تبصر النور قبل إجراء الانتخابات، فشكل من يحكم العراق ويتعاملون معه مستقبلاً سترسمه الانتخاباتُ النيابية في الثاني عشرَ من مايو/أيار المقبل، وقد يكون بنسبة كبيرة حليفاً إيرانياً بامتياز في ظل ما تحققّ من تطورات على الأرض.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد