من الذي اخترع تعبير "وراء الشمس"؟
إنه تعبير مصري صميم، اختُرع في فترة عبد الناصر، وظل مستخدماً منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.
هذا التعبير المصري الأصيل يعتبر مسلمّة من مسلمات الحياة في مصر، منذ بداية حكم العسكر في الخمسينيات من القرن الماضي، وحتى يومنا هذا، دون أي فترة استثناء، بما في ذلك فترة ما بعد كانون الثاني/ يناير وقبل انقلاب تموز/ يوليو 2013. فوزارة الداخلية والمخابرات العسكرية، وغيرهما من أجهزة الأمن، لم تتوقف عن إرسال المواطنين الذين تختلف معهم في رحلات منتظمة وراء الشمس، وهذه الأجهزة لم يتمكن أحد من السيطرة عليها.. لا الثورة، ولا الرئيس مرسي، ولا الجن الأزرق!
لا يوجد مصري واحد ينكر أن هناك مكانا "وراء الشمس"، وهذا المكان معد خصيصاً للمواطنين الذين يتورطون (أو يُظنُّ تورطهم) في أي أنشطة سياسية يراها الحاكم تشكل خطراً عليه، ومن يدخل هناك (حتى لو كان بريئا) سيطول بقاؤه، حفاظاً على هيبة المكان على الأقل. فمن ضمن أبجديات أسطورة ما يسمى (وراء الشمس) أن الداخل مفقود… والخارج مولود.
من أعجب العجائب أن ترى مصرياً يعلم جيداً في عقله الباطن أن هناك مكانا وراء الشمس… ثم تراه يشكك في الإخفاء القسري، ويسأل أسئلة غريبة عن دولة القانون المزعومة، وينكر ما توارثه الآباء والأجداد!
تقول الدساتير المصرية على اختلاف أنواعها ومراحلها… إن أي مواطن يتم القبض عليه لا بد أن توجه له تهمة خلال مدة محددة (يوم أو يومين)، وبعد ذلك يعتبر محتجزاً احتجازاً غير قانوني… أي يعتبر في حالة إخفاء قسري… هذا ما تقوله الدساتير.
بل إن جميع الدساتير المصرية تُلزم الدولة بالإفصاح عمن تحتجزهم، أي أنه ليس من حق الدولة أن تُنكر أنها قد قبضت على مواطن بعينه، ولا أن تمنعه من الاتصال بمحاميه، وإذا فعلت ذلك (حتى لو تم ذلك خلال اليوم الأول من الاحتجاز، وقبل توجيه تهمة رسمية) تعتبر الدولة حينها قد أخفت هذا المواطن قسرياً.
نحن اليوم (وطبقاً لدستور الحريات المزعوم) أمام عشرات الآلاف من الحالات التي احتجزت وأنكرت الأجهزة الأمنية وجودها لديها، ثم ظهر هؤلاء الأشخاص بعد ذلك بأيام أو أسابيع أو شهور كمتهمين في قضايا، فبأي منطق يتم إنكار وجود إخفاء قسري مع وجود آلاف الحالات، بل عشرات الآلاف من الحالات؟
أقول "عشرات الآلاف من الحالات" لأن غالبية من تم اعتقالهم وتوجيه تهم رسمية لهم، غالبية هؤلاء مروا بفترة اختفاء (إخفاء بمعنى أدق) قبل أن يصلوا إلى محطتهم الأخيرة كمتهمين، هذه الفترة التي تم إخفاؤهم فيها (والكلام لمن لا يعلم) تسمى في عرف القانونيين والحقوقيين إخفاء قسريا.
من هذا المنطلق نظرت إلى قضية الفتاة المعتقلة المخفية قسرياً "زبيدة"، تلك المواطنة المصرية التي ارتكبت أجهزة الأمن في حقها ألواناً من الانتهاكات.
إن مجرد ظهور زبيدة مع الثعبان الأقرع الذي أجرى معها اللقاء المتلفز يعتبر دليلاً على إخفائها قسرياً؛ لأن المختفين قسرياً معروفة أماكنهم لأجهزة الأمن، لأنهم "وراء الشمس". والرقعة المكانية المسماة "وراء الشمس" تقع جغرافيا في منطقة وسطى بين وزراة الداخلية والمخابرات العسكرية والمخابرات العامة ورئاسة الجمهورية!
ولا يملك مخبر كالثعبان الأقرع أن يُخرج هذه المسكينة منها.. "الباسوورد" مع الجهات التي ذكرتها فقط، ولا شفاعة وراء الشمس لثعبان مشعر أو أقرع!
أما مسألة الزوج والطفل… الى آخر هذه التفاصيل، فهي أمور لن تغير من حقيقة أن هذه الفتاة اختُطفت في يوم ما، وتم الاعتداء عليها، وحين قررت الأجهزة الأمنية أن تظهرها ظهرت في غمضة عين، والتقى بها الثعبان الأقرع في مقر وزارة الداخلية كما قال بلسانه المسموم.
الذين يطرحون أسئلة من نوعية "لماذا زبيدة؟"، و"ماذا تستفيد الدولة من الإخفاء القسري للمتهمين؟"، و"هل الدولة بهذه السذاجة لكي تقع في هذه الأخطاء القاتلة؟"… هؤلاء لا يمكن أن نجيب عليهم بإجابات قاطعة مقنعة؛ لأن منطق السؤال يوحي بنوعية السائل، وبطريقة رؤيته أو إنكاره للواقع، وبصعوبة إقناعه بالإجابة! ولكن من الممكن أن نطرح معهم مجموعة من الأسئلة الوجودية… تبدأ بسؤال مثل: "لماذا أكل أبونا آدم من الشجرة رغم وجوده في نعيم الجنة؟"، وتنتهي بسؤال: "لماذا قررت وزراة الدفاع أن تفضح نفسها وأن تعلن عن علاج فيروس "سي" والإيدز بالكفتة؟"!
بهذا النوع من الأسئلة يمكن إجابة هذا النوع من السائلين المتشككين أو المتفذلكين، فأسئلتهم فارغة من المضمون، منطقها معتل، وسائلها مختل!
في النهاية… ستتغير مصر، وكل هذه الآلام التي نعيشها هي جزء من ثمن التغيير، وبإمكاننا لو أصبحنا على مستوى المسؤولية الوطنية أن ندفع أثمانا أهون، وأن نعيش آلاماً أقل. ولكن يبدو أن نخبنا السياسية بسبب تفرقها مُصرَّةٌ على أن يتم التغيير بأطول الطرق، وبأفدح الأثمان، وبعد أن يمر مئات الآلاف برحلات مؤلمة وراء الشمس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.