في ذكراها.. قراءة على رصيف الوحدة السورية – المصرية

أعتقد أن توجّه السوريين إلى "مصر عبد الناصر" وطلبهم قيام وحدة سورية - مصرية كان موقفاً ارتجالياً فرضته عليهم ظروف تلك الحقبة المتمثلة في حلف بغداد ومشروع الهلال الخصيب، وما كان يثار حول فكرة سوريا الكبرى ومنظّرها الحزب القومي السوري الاجتماعي "أنطوان سعادة".

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/03 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/03 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش

يقول الفيلسوف الإنكليزي كارل بوبر: (لا يوجد شيء اسمه حقيقة تاريخية، بل هناك قراءات وأوجه بشرية لها)، وهذه الأوجه لا تستطيع الرؤية بحياد مهما حاولت، فالعقل البشري الذي يرى الأحداث ويرويها هو منتج لسلسلة متراكمة من الخبرات، وساحة وعي مصغرة لديالكتيك تتضارب فيه الأفكار المستمدة من الخبرات بشكل مستمر لتنتج فكرة جديدة، هذه الأفكار تشكّل رؤيتي تجاه الأحداث لأنظر عبرها، العقل الحاوي لهذه الأفكار هو بصري وبصيرتي؛ لذا ليس ثمة وجود حقيقي لموضوعية حيادية بالمعنى الفلسفي (مستقل عن العقل) "نص مقتبس".

أعتقد أن موضوع الوحدة السورية – المصرية تحت عنوان "الجمهورية العربية المتحدة" التي أعلنت يوم 22 فبراير/شباط 1958 بتوقيع ميثاق الجمهورية المتحدة من قِبل الرئيسَين السوري شكري القوتلي، والمصري جمال عبد الناصر.

قد أرهقها الباحثون والكُتاب بحثاً وتمحيصاً من وجهات نظر متعددة، سواء من المؤيدين لهذه الوحدة أو الناقمين الرافضين المنددين بها وبمن سعى فيها.

وأعتقد أنه من الإنصاف بمكان حين نريد محاكمة مرحلة تاريخية أن نحاكمها وفق ظروف ومعطيات تلك الحقبة التاريخية، وأن لا تحاكم وفق معطيات الحاضر المعاش.

لو اطلعنا على المزاج العربي العام السائد تلك الحقبة نعتقد أن الوحدة العربية كانت مطلباً جماهيرياً عربياً من المحيط إلى الخليج، خاصة أن الثورة العربية الكبرى التي تم طعنها من مدّعي دعمها ووُئد معها حلم الدولة العربية الكبرى بعد الاستقلال عن الخلافة العثمانية، ويمكننا القول إن الناس كانوا حديثي عهد بالكيانات العربية المصطنعة على يد سايكس وبيكو اللَّذينِ وضعا حدود الكيانات العربية الحالية.

بالعودة للموضوع الرئيسي الوحدة السورية – المصرية، نعتقد أن الشعبين العربيين في سوريا ومصر قد رحّبا بشكل كبير بقيام هذه الوحدة، لكن المسألة ليست هنا، بل المسألة كانت هل الذين وضعوا أساس هذه الوحدة قد وضعوها على أُسس واقعية خاضعة لمراجعات وتدقيق أم أنها خطوة ارتجالية فرضتها طبيعة المرحلة؟

شخصياً أعتقد أن توجّه السوريين إلى "مصر عبد الناصر" وطلبهم قيام وحدة سورية – مصرية كان موقفاً ارتجالياً فرضته عليهم ظروف تلك الحقبة المتمثلة في حلف بغداد ومشروع الهلال الخصيب، وما كان يثار حول فكرة سوريا الكبرى ومنظّرها الحزب القومي السوري الاجتماعي "أنطوان سعادة".

وهذا ما أكده الرئيس السوري الأسبق الفريق أمين الحافظ، في شهادته على العصر.

ومما يدعم قولنا هذا هو ما أشار إليه بنفس المقابلة الفريق الحافظ الذي قال: توجّه مجموعة من الضباط السوريين إلى مصر دون علم رئيس الجمهورية حينها شكري القوتلي ورئيس الحكومة صبري العسلي.

هنا علينا أن نتوقف كما توقف العقيد النحلاوي مهندس الانفصال؛ لنطرح تساؤلاً: كيف قبل الرئيس المصري جمال عبد الناصر أن يستقبل وفد الضباط السوريين دون التنسيق مع القيادة السورية المتمثلة في الرئيس شكري القوتلي وحكومة صبري العسلي؟ وهل صحيح أن عبد الناصر فاجأه الموضوع؟ وكان متردداً لدرجة فرض شروط، أم أن موضوع الوحدة السورية – المصرية كان له إرهاصات منذ العدوان الثلاثي أو حرب 1956 كما تعرف في مصر أو أزمة السويس؟

حين أعلن جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، انعقد المجلس النيابي السوري فوراً وقرر تأييد مصر في تأميمها لقناة السويس والوقوف إلى جانبها ضد أي عدوان محتمل عليها، وتشكلت الهيئة العربية – السورية لنصرة مصر، شاركت فيها جميع الأحزاب السورية وخرج الشعب العربي في سوريا بمدنها وأريافها ليشترك في مهرجانات يوم مصـر.

وما أعقبه من قصفت هوائيات الإذاعة المصرية وأسكتت إرسالها حتى أعلنت إذاعة دمشق نداء "هنا القاهرة".

ومن ثم نسف أنابيب البترول في سوريا يوم 2/11/1956، والعائدة لشركة (إيه بي سي) البريطانية، في ثلاث محطات للضخ، وامتناع العمال السوريين عن إفراغ السفن القادمة من فرنسا وبريطانيا إلى الموانئ السورية.

قد يستشهد أحدهم على القبول الشعبي السوري للوحدة مع مصر بذكر حادثة النقمة الشعبية التي عمّت في سوريا، ما دعا الشعب السوري الثائر لنصرة مصر فأُلقيت القنابل على القنصلية الفرنسية في دمشق، وحلب، وهوجمت المؤسسات الثقافية الفرنسية والبريطانية.

بغض النظر نعتقد اليوم أن إصرار عبد الناصر على الوحدة الاندماجية الكاملة مع سوريا وعاصمتها القاهرة كان من أهم أسباب الانفصال، رغم أن عبد الناصر أراد من هذا الشرط أن يضمن له كامل السيطرة على الإقليم الشمالي وتخوفه من ضباط الجيش السوري وانقلاباتهم المتكررة، لكنه جاء بعكس ما يشتهي عبد الناصر؛ حيث إن الوحدة الاندماجية الكاملة كانت كارثة خاصة على السوريين الذين اعتادوا الحياة الديمقراطية الكاملة بعد الاستقلال، وكانت معيشتهم تعتمد على ما يسمونه اليوم اقتصاد السوق ومعظم أراضيهم وتجارتهم ومعاملهم والبنوك خاصتهم والصحف كانت ملكيات خاصة، فجاء عبد الناصر بقرار الاندماج الكامل وفرض التأميم على المصانع والأراضي والبنوك في سوريا، مما أثار غضب الطبقة الرأسمالية في سوريا عليه، ومن ثم التحول إلى النظام الاشتراكي في بلد رأسمالي صناعي تجاري كان كارثة حقيقية بالنسبة للصناعيين والتجار السوريين، الأمر الذي كان نتيجته أن تدهورت الملكية الخاصة في سوريا، وتراجعت الأنشطة التجارية والصناعية التي كانت مزدهرة بشكل كبير جداً في سوريا، وشيئاً فشيئاً بدأت دمشق تفقد دورها السياسي والثقافي والتجاري بسبب الممارسات التعسفية التي اتخذها عبد الناصر وحكومة الوحدة.

وهنا علينا أن نتوقف لنتساءل حول تأميم أراضي الملاك وعدم توزيع أملاك الدولة على الفلاحين وهي بآلاف الهكتارات، الأمر الذي دمّر الملكية الخاصة وأوجد حساسيات مجتمعية.

نعتقد أنه حتى اليوم لم تتعافَ الصناعة والتجارة السورية من آثار تلك الحقبة المدمرة، بالنسبة للاقتصاد نعطي مثالاً المصانع التي كانت مزدهرة وذات مكانة مرموقة في المنطقة والإقليم "السكر – النسيج – المطاحن" اليوم ترزح تحت وطأة الديون التي تقدر بالمليارات، وبعضها "الغزل والنسيج" تم إغلاقها بينما كانت قبل الوحدة أثناء الملكية الخاصة مزدهرة جداً ولها سمعة دولية.

حتى شركة الطيران العربية السورية التي كان بحسابها ملايين الدولارات بعد الانفصال خرجت مفلسة شبه منهارة.

بالنسبة للجيش تعلمون جميعاً كيف كانت تدار الأمور العسكرية في الجمهورية العربية المتحدة بطريقة تعسفية قِيل فيها الكثير حول تهميش دور الضباط السوريين وعدم الوثوق بهم، وتسريح عدد منهم، وعدم ترفيع الضباط مما أثار نقمة الجيش الأول "سوري"، وكان نتيجته بعد الانفصال أن سيطر ضباط الأقليات على الجيش، خاصة "اللجنة العسكرية" التي حكم أفرادها سوريا فيما بعد بيد من حديد، وكله بفضل سياسات عبد الناصر وعبد الحكيم عامر.

الصحافة تم تدميرها بشكل كامل، والأحزاب السياسية تم تعطيلها وحلها شرطاً للوحدة، فلكم أن تتخيلو سوريا التي كانت فيها أكثر من مائة صحيفة في تلك الفترة وعشرات الأحزاب بمختلف توجهاتها، يساري، إسلامي، شيوعي، قومي. باتت سوريا خالية من الصحف والأحزاب، كان هذا خياراً كارثياً ما زلنا نعاني منه حتى اليوم، خاصة لو تذكرنا أنه وبعد الانفصال لم يتم انتخاب مجلس شعب لسنوات، وتم فرض قانون الطوارئ الذي حكمت فيه سوريا حتى اليوم.

بالعودة للجمهورية العربية المتحدة وعدم وضع دستور دائم لها، بل حكمت بوثيقة دستورية أو إعلان دستوري، كما يسميه البعض اليوم، كانت قمة في المهزلة السياسية ومنحت عبد الناصر كامل الصلاحيات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وكان الحاكم بأمره بكل ما تعنيه الكلمة وما تحتويه من عبارات.

وما كان لهذا الأمر أن يستقيم في ظل إقليمين غير متواصلين جغرافياً، وفي ظل فوارق اجتماعية وثقافية وطبقية بين الإقليمين الشمالي والجنوبي.

والفوارق كانت كبيرة جداً، صحيح أن الوحدة العربية والدين واللغة والقرابة تجمع بين الشعب في سوريا ومصر، لكن ثمة فوارق كبيرة جداً بينهما، وقد عشت في مصر ما يقارب الخمس سنين واطلعت على تلك الفوارق الثقافية والاجتماعية والكثافة السكانية، وقد قيل كثيراً في الموضوع من باب تدفق القوى العاملة من الجنوب إلى الشمال وإغراق السوق، وتحول الإقليم الشمالي إلى مزرعة للإقليم الجنوبي وعدم تكافؤ الفرص ووجود اختلافات جوهرية في العادات والتقاليد والموروث الحضاري والفكري والميول السياسية والخيارات الاقتصادية، هنا نعود إلى المربع الأول هل تمت دراسة موضوع الوحدة الاندماجية الكاملة كما قلنا في البداية؟ أعتقد بعد الشرح وما يعيشه السوريون في مصر اليوم يدرك الاختلاف الذي تحدثت عنه، وبالتالي كان من الأفضل أن تقوم الوحدة التي هي مطلب جماهيري على أسس أكثر واقعية، وأن تخضع لمحكات الواقع المعاش ودراسة الأسلوب الأنجع لشكل الوحدة، لربما كانت الوحدة الفيدرالية أفضل في مرحلة معينة ثم الانتقال إلى الوحدة الاندماجية بعد تهيئة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية " قوانين أحزاب – قوانين تجارية – دستور – فصل السلطات"..

أن تأتي وتؤمم مصانع وأراضي وبنوكاً كانت مزدهرة وفي بلد رأسمالي كانت خطوة غير موفقة على الإطلاق ثم تتحول إلى النظام الاشتراكي، شكلياً، وكلنا يعلم كيف كانت تدار تلك المرحلة الزمنية "اللي شاف قصر وضعه تحت الحراسة واللي شاف فدانين عملهم عزبة واللي واللي"، كما جاء في فيلم "حتى لا يطير الدخان"، إخراج أحمد يحيى، بطولة عادل إمام، وقصة إحسان عبد القدوس.

قي فيلم "حتى لا يطير الدخان" لعادل امام، نستطيع تشبيه تلك الفترة بما حدث في سوريا بعد عام 2000 حيث تم الانتقال إلى اقتصاد السوق المفتوح مع وجود قوانين ونظام اشتراكي قفزة في الهواء.

حتى لا نظلم تلك الحقبة لنعُد إلى ظروف الوحدة ولنتذكر أن السعودية التي كانت تنافس الملك فاروق ومن ثم عبد الناصر على زعامة العالم العربي والإسلامي لم تكن مرتاحة لهذه الخطوة الاندماجية، وقيل إن السعودية دفعت أموالاً وعرضت أخرى لتفشل الوحدة الوليدة، كما أن الهاشميين كانوا ضد الوحدة خوفاً على ملكهم، وكذلك لبنان والطائفيون العنصريون كانوا ضد الوحدة خوفاً من عودة لبنان إلى وضعه الطبيعي جزءاً من سوريا ثم من الجمهورية العربية المتحدة.

أعتقد -من وجهة نظر حيادية- أن الذين قاموا بالوحدة والذين قاموا بالانفصال لم يقوموا بها بشكل يسمح لها بالاستمرار والتوسع لتشمل بقية الأقطار العربية، وأعتقد أن الطرفين قاما بها لأسباب شخصية ولخدمة مصالح خاصة بعيدة عن حتمية وضرورة الوحدة التي تنبع من الشعوب، لا من ضباط ينقلبون على أنفسهم، وليس لديهم أي رؤية أو تصور لمشروع وحدوي حقيقي.

النتيجة المستفادة من تجربة الوحدة أنه من غير الممكن قيام وحدة أو استمرارها بين ثقافتين مختلفتين دون ديمقراطية، ولا يمكن أن تجتمع الاندماجية مع نظام استبدادي شمولي.

نعود لمقولة كارل بوبر وتعدّد الأوجه في بداية المقال، نقرأ الوحدة من أي وجه؟ أو نراها بأي منظور؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد