سوريا: قصة موت مُعلن

لقد تخطى الحاكم المتواضع - بخفة- مرحلة صناعة المفاجآت الجديدة إلى مرحلة تكرار لا نهائي للمفاجأة القديمة

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/01 الساعة 00:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/01 الساعة 00:12 بتوقيت غرينتش

في عالم تُحركه الدعاية؛ حيث يتحدد مصير الأفكار والمشاعر التي تصير مُجرد سلع، ليس مهماً ما سوف تفعله بقدر أهمية ما سوف تدّعيه وتُروج له، الفعل في الحالة السورية هو القتل المستمر على مدار اليوم، والذي يعلن عن نفسه ليس بصفته فقط فعلاً سياسياً يدّعي أن له غاية ما هي حماية مصلحة مجموعات من البشر، والذين يُطلق عليهم ضمن غابة "الاستبداد الشرقي" مصطلحات مجازية لا يصدقها أولاً قائلوها كالأمة أو الشعب.

الادعاء هنا بصفته روتيناً للقتل حيث لا يخجل القمع من التعبير عن نفسه كمرادف للحياة التي ينفيها بالفعل، ذلك النفي للحياة؛ حيث السلطة التي تبتلع الأفراد بالجُملة. الفعل الذي يروج لذاته باعتباره فعل إنقاذ يستحق الإفلات من العقاب بدعوى أنه لم يرتكب أية جريمة، لقد ادّعى وروّج لذلك، حتى وإن لم يصدقه كثيرون، فإنهم لم يفعلوا ما يتجاوز جوهر عمله، لم يفعلوا غير الترويج لوجهة نظرهم وإن كانت بالفعل تُمثّل الحقيقة، لكن الدعاية لا تنتبه كثيراً إلى حقيقة ما يتم بثه، لكن بجودة ما يتم بثه.

أن تفاجئ العالم في كل مرة بأن تمارس العنف باطراد وبجرأة وفجاجة تتجاوز ما قبلها من فظاعات ارتكبتها ذلك هو أحد شروط نجاحك كمستبد في تحقيق هدفك الجوهري: البقاء على رأس السلطة؛ هكذا يؤمن حداثيو غاز الكلور من القوميين المتحمسين لإعدام مواطنيهم في معسكرات الاعتقال الوطنية، المفاجأة تُوفر للعالم المبرر اللازم للعجز أو عدم الرغبة في فعل شيء، وهو الشعور بالشلل المؤقت الناتج عن صدق المفاجأة، سيفيق العالم متأخراً من أثر الصدمة، وسيدّعي أن الذي حدث هو أمر بشع لا يمكن السكوت عنه، لكن الأوان قد فات لفعل شيء، حتى إن الأسوأ قد حلّ في أثناء الصدمة كأثر لا رجوع عنه.

وعلى العالم بالتالي أن يقبل باستمرار السيئ، وهكذا في كل مرة يفيق العالم لن يصبح لإفاقته معنى، بخار الكلور السام سيذهب مع الريح، أما القتلى فتوجد منظمات حقوقية كثيرة كافية لعدّهم، بينما العالم الاستهلاكي الطيب -الذي ننتمي جميعاً إليه بلا استثناءات- مُتلهف بشدة إلى مفاجأة جديدة كي يصنع منها تريند آخر يقتل به الملل، ويشعر من خلاله بصورة مؤقتة أن هنالك قضية ما مهمة وسط اللاجدوى والسيولة التي ابتلعت كل شيء.

يمكننا تسمية ما يجري في سوريا منذ سنوات بأنه ممارسة للقتل بغرض الدعاية؛ حيث يمكنك قتل المزيد من الآلاف من الناس وتثبت للعالم أنه يمكنك الاستمرار في الحكم، وتثبت أيضاً أن هنالك طرقاً جديدة لإعادة إنتاج الإبادة في عصر "البث الحي"، قُتل الملايين في الماضي، لكنهم أرادوا لنا أن نصدق أن ذلك لم يعد ممكناً الآن كما كان من قبل، فنحن لدينا "قوة الميديا" القادرة على فضح الجريمة ومنعها حتى قبل أن تبدأ، لم تتوقف الجريمة، ربما لأن لها دوافع كثيرة أكثر تعقيداً لا تكترث بأن ينكشف أمرها، وحيث المجرم لا يكترث بالفضيحة التي ستكون كافية بدورها لصناعة أطنان من المواد الضاحكة والمؤتمرات التي سيتم استهلاكها – كما يتم استهلاك كل شيء ورميه- سريعاً، الجريمة تُنقل الآن على الهواء مباشرةً.

وبالتالي لم يعد مبرر الجهل بالفظائع حاضراً، حيث نملك الوسائل لمعرفة أن مجموعة من الناس ماتوا قبل أن تبرد جثثهم. لقد قتلهم شخص مُتواضِع ورث مستعمرة قديمة ومُحتلة أيضاً عن أب وحشي ومندفع، وبالنسبة له إذا كان سبيل بقائه في الحكم هو إبادة جماعية قد تنتهي بفناء السكان -بالمعنى الحرفي للكلمة- فليكن كذلك، المهم هو التمتع بالقدر الكافي من الصبر واللامبالاة الذي قد يجعلك على سبيل المثال تُفرغ ذخيرتك عدة مرات في مدينة واحدة، في تحدٍ سافر حتى لمصلحتك كمجرم في مط حدود الجريمة وبعثرتها في الأنحاء بحيث لا يمكن لمُعارضيك الإلمام بها أو تسليط الضوء عليها.

لقد تخطى الحاكم المتواضع – بخفة- مرحلة صناعة المفاجآت الجديدة إلى مرحلة تكرار لا نهائي للمفاجأة القديمة، وتخطى العالم أيضاً -حتى يكون على مستوى الحدث- برفقته نفس المرحلة، ليتفاجأ بنفس الجريمة في كل مرة، بينما جزء من ذلك العالم يجرب أسلحته الجديدة قبل عرضها للبيع.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد