في الغوطة.. حيثُ سُلِبَ كل شيء!

ماذا لو سُلِبت كل شروط إنسانيّتك؟ ماذا لو قُطِع عنك التواصل لأيام عن أمك التي تعيش في أسخن منطقة في العالم ولم تتمكن من الاطمئنان عليها؟ ماذا لو حوصِرتَ وقُصِفتَ بكل أنواع الأسلحة، ومُنِع عنك الطعام والمياه النظيفة!

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/24 الساعة 01:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/24 الساعة 01:35 بتوقيت غرينتش

هل فكّرتَ أبداً يا عزيزي ماذا لو وُهِبتَ نصف سعادة هذا العالم! نعم نصفها.. نصف سعادة الأثرياء، ونصف سعادة العشّاق، ونصف سعادة المتصوفين حين يشعرون بأن الله تجلّى في قلوبهم، ونصف سعادة الأصحّاء، وحتى نصف سعادة الحشاشين حين ينتشون.. ماذا لو شعرتَ بكل هذه السعادة دفعةً واحدة في قلبك! هلّا تخيّلتها يا صديقي! فبطبيعتنا يا عزيزي سنحلِّقُ بأفكارنا وأحلامنا، سنعمل بكل طاقاتنا باتجاه بلوغ ذروة السعادة التي نتمناها، سنراوِغ ونحارب ولربما نقضي على سعادة مَن هم غيرنا لنبلغ سعادتنا، سنضحّي بِمن هم دوننا بغية أن تغمرنا السعادة بمستوى معين نطمح إليه، بل ونطمح أن نتجاوزه بلا هوادة!

قد تختلف مفاهيم السعادة بين أحدنا والآخر، ففي سعادة الكبار قد يكون الانتقام سعادة، وقد يكون القتل سعادة، وقد تكون الخيانة سعادة، وكلها سعادةٌ شُقَّت طُرقها بالدم، وأما سعادة البسطاء فهي حالة، فالقليل يُسعدهم ويرسم علامات الرضا على وجوههم، مهما خطّت عليها مآسي الزمان من تجاعيد، فإن ابتسامة الرضا تجد طريقها إليهم، تراهم فرحين ما لديهم، مكتفين بأنعم الله عليهم، قليلي الندب والحقد والحسد، وهؤلاء هم ثلّة قليلة، ينسجون الأحلام والغد الجميل بما لا يمكن أصلاً له أن يكون.

على النقيض يا عزيزي، فهلّا تخيَّلتَ معي لو أنّ حتى سعادة البسطاء تلك قد سُلِبَت منك، تخيّلها كذلك، لو أنّ منزلك قد تدمّر وحُرقَ أثاثه، ولو أن أباك وزوجتك وابنك قُتِلوا، ولو أنك فقدت ساعدك، ولو أنّك عشت عشرات الليالي في الملاجئ مع مئات البشر!

ماذا لو سُلِبت كل شروط إنسانيّتك؟ ماذا لو قُطِع عنك التواصل لأيام عن أمك التي تعيش في أسخن منطقة في العالم ولم تتمكن من الاطمئنان عليها؟ ماذا لو حوصِرتَ وقُصِفتَ بكل أنواع الأسلحة، ومُنِع عنك الطعام والمياه النظيفة!

ماذا لو حملتَ ابنك ذا التسعة سنين وبياض الكفن يغطي جسده البارد وذهبت به لتدفنه وحدك في المقبرة؛ نظراً لحظر التجوال الذي فرضه القصف المتواصل!

ماذا لو أنّ زوجتك الحامل في شهورها الآخيرة قد اخترقت بطنها شظيّةً فقتلتها وجنينها!

ماذا.. وماذا.. وماذا لو؟!

لن تتخيّل ذلك يا عزيزي، فبطبيعتك البشرية تلك لن تسمح لنفسك بأن تهوي بهذه البحور من الآلام اللامنتهية، ولكن ماذا لو علمتَ أنّ هناك مئات ألوف البشر الذين يعايشون كل ما ذكرته لك، وما لم يخطر كذلك على بالك من الآلام، في بقعةٍ سوريّة تتشظّى كل دقيقةٍ وتنزف، في غوطة دمشق الشرقية!

البارحة مساءً وبعد طول انتظار، ردّت عليَّ أختي أخيراً بعد منتصف الليل لتخبرني أنها صعدت للتوّ من الملجأ وأنها عائدة خلال ساعاتٍ قليلةٍ إليه، ثم استأنفت حديثها فقالت: "ما أصعب انتظار المجهول"!

في كلِّ بيتٍ غوطانيٍّ شهيدٌ واثنان وثلاثة، إن لم تكن العائلة بأكملها قد غادرت هذه الأرض مجتمعةً إلى السماء، تحت أنقاض كل بيتٍ مدمَّرٍ بقايا من أجساد أهله، لا من ذكرياتهم، فذكرياتهم قد محاها انقضاض سقف البيت على أرضه، في كلِّ بيتٍ يا صديقي "تحويشة العمر" التي دمّرتها طائرات جيش بلادنا ورفاقه المستعمرين.

مئات الشهداء خلال أيام قليلة، وتصريحات روسيّة بتكرار سيناريو حلب، وآخر فرنسي ليطالب بهدنة "لإخراج المدنيين"، والأتراك منشغلون في عفرين، والعرب أمّة ميتة، وباقي العالم عاجزٌ يشاهد فيلماً مرعباً مغطى بكل مآسي الحياة ومشاهد الدماء في أرضٍ تبعد بضعة كيلومترات عن عاصمة الأسد الساحرة.

المجد للشهداء الذين تتدفّقُ أرواحهم تترى إلى السماء، واللعنة على القتلة، والعار لهذا العالم الأحمق الذي عجز في حضرة ديكتاتورٍ غارقٍ حتى النخاع بدماء شعبه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر ش تحرير الموقع.

تحميل المزيد