عقدة أوباما.. الإسقاطات النفسية في السجال ما بين معسكرَي نعم نستطيع وأميركا أولاً

كان واضحاً منذ البداية أن ترامب يرنو إلى استقطاب أصوات الساخطين والأوساط الشعبوية الناقمة عموماً، بتحريك مكامن الغضب فيهم تجاه الطبقة السياسية، بتحميلها كل الأوزار وشيطنتها، فكثيراً ما تجد مثل هذه الخطابات المبسطة والغاضبة القبولَ والرواج لدى تلك الأوساط لسهولة استيعابها

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/14 الساعة 01:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/14 الساعة 01:48 بتوقيت غرينتش

عقب إعلان الفوز المفاجئ لـ"دونالد ترامب" على "هيلاري كلينتون" في السباق الرئاسي، قال لي أحد الأصدقاء ساخراً:
لا ترهق نفسك بعد اليوم كثيراً في البحث عما بين السطور ورصد التصريحات، فكل ما عليك فعله هو توقّع صدور قرارات ومواقف مناقضة لتلك التي أرساها الرئيس "باراك أوباما" طوال فترتَيه الرئاسيتين من قِبَل خلفه، فما ينطوي عليه برنامج الوافد الجديد الانتخابي وما أعلن عنه صراحة في لقاءاته هو عقده العزم على كنس أي أثر لـ"أوباما" والكلمة الأكثر تكراراً في وعوده هي "الإلغاء"، ثم استدرك بالقول: الشيء الوحيد الذي يستدعي منك بذل الجهد هو التنبؤ بماهية العقبات التي ستعترضه في سبيل تحقيق ذلك.

على الرغم من أنها توقعات هازئة، فإن دونالد ترامب لم يخيّب ظن صديقي، والسر في ذلك يكمن في بساطة هذه التوقعات المنسجمة مع عقلية ترامب وطريقته في تناول الأمور.

لكن المدهش حقاً هو السرعة في إنفاذ ما وعد به علي غير العادة مع الرؤساء السابقين إلى درجة توحي بأن ترامب قد وصل إلى البيت الأبيض عن طريق انقلاب عسكري لا عبر انتقال ديمقراطي سلس للسلطة، فسرعان ما شرع في إلغاء الاتفاق مع كوبا، وعمل بدأب لإلغاء برنامج "أوباما كير"، وانسحب من اتفاق باريس للمناخ، بحجة أن التغير المناخي ما هو إلا خدعة اختلقتها الصين (وهو المقتنع بجدوى الوقود الأحفوري في إنعاش الاقتصاد الأميركي، والمتغافل عن أن الطاقة البديلة يمكن أن تشكل بديلاً اقتصادياً ضخماً)، ولوّح كذلك بالانسحاب من اتفاق إيران النووي، واتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي، واتفاق التبادل الحر ما بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك.

ورفع عصا التهديد عالياً في وجه الشركات الأميركية العاملة في الخارج (فيما يمكن تسميته بحمى الحمائية المثيرة للجدل حول جدواها في دولة تعتمد على التصدير، فللآخرين أيضاً الحق المماثل في اتخاذ إجراءات مشابهة)، كما عزز من فرضية صراع الحضارات بالنظر إلى موقفه من الإسلام والمسلمين، ولم يبقِ من كامل إرث أوباما إلا على بعض الاستثناءات القليلة كتمديد رفع الحظر جزئياً عن السودان الذي اتخذه سلفه في آخر أيامه بالبيت الأبيض، وبدا ترامب في تلك الفترة كأن لا عمل له في المكتب البيضاوي إلا الإمساك بالممسحة ومسح أي أثر لأوباما.

كان واضحاً منذ البداية أن ترامب يرنو إلى استقطاب أصوات الساخطين والأوساط الشعبوية الناقمة عموماً، بتحريك مكامن الغضب فيهم تجاه الطبقة السياسية، بتحميلها كل الأوزار وشيطنتها، فكثيراً ما تجد مثل هذه الخطابات المبسطة والغاضبة القبولَ والرواج لدى تلك الأوساط لسهولة استيعابها ولما توفره من خصوم ماثلين يسهل إلقاء اللوم عليهم، دونما تجشم لعنة الغوص في عمق المشكلة، فوفقاً لما ورد في كتاب "نار وغضب" لم يتوقع ترامب نفسه الفوز عند الترشح، وكان كل ما يأمل من وراء ذلك تحقيق المزيد من الشهرة وإنعاش استثماراته، كما كان لانتزاعه حق الترشح في مؤتمر الحزب الجمهوري وقع الصدمة على أقطاب الحزب.

ويبدو ذلك جلياً عند النظر إلى طبيعة العلاقة التي جمعته بأقطاب الحزب الكبار وقتها كـ"بول رايان" زعيم الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، فقد أوردت قناة الـCNN حينها أن "رايان" كان يتعمد تجنّب الإجابة عن أي سؤال عن ترامب، ويكتفي بالتركيز على مساوئ "هيلاري كلينتون"، حتى بلغ التشاحن ذروته بين الرجلين، عندما غرّد ترامب على تويتر متهماً رايان بالضعف الشديد وانعدام الفاعلية، في سياق رده على تأكيد رايان أنه لن يدافع عن ترامب ولن يدعو الناخبين للتصويت له، على أثر فضائح التحرش الجنسي التي طالت ترامب.

مثل هذه المواقف زرعت الشعور لدى ترامب بانعدام التضامن والنبذ من قِبل أقطاب حزبه، وأنهم مجبرون على قبوله بعدما فرضته عليهم قواعد الحزب؛ لتتسم العلاقة بالتنافر بين أقطاب الحزب ومرشحه؛ لتبلغ منعطفاً خطيراً بتصدّي السيناتور "ليندساي غراهام" لنوايا ترامب إقالة وزير العدل والمحقق مولر قائلاً: إقالة وزير العدل سيكون ثمنها جهنم، وإقالة المحقق مولر ستكون بداية النهاية لرئاسة ترامب.

إذن هذا التهديد والتحدي الصادر من شخصية بثقل "ليندساي غراهام" في الحزب الجمهوري، والذي لم يسبق أن سمعه رئيس أميركي من حزبه، يجعل المرء متيقناً من أن أقطاب الحزب الجمهوري يمنّون النفس بإقالة ترامب؛ ليحل بدلاً منه نائبه الجمهوري المحافظ "مايك بنس".

دونالد ترامب السبعيني، عضو قائمة فوربس للمليارديرات، المتباهي بنفسه وثرائه حد العجرفة، وغير المنصت لمستشاريه، فقد اعتاد طوال حياته على إصدار الأوامر لمرؤوسيه دونما مراجعة، والكاره في ذات الوقت للقراءة، لدرجة أن يصف مستشاره للأمن القومي "هيربرت ماكماستر" بالممل، فـ"ماكماستر" عادة ما يصطحب معه كمّاً هائلاً من التقارير في لقاءاتهما.

كما أن ترامب بطريقته الشعبوية الفجة والمتحدية في الحديث سرعان ما يبدد تلك الهالة المحيطة بذوي الثراء والنفوذ، فور شروعه في الكلام أو إمساكه بهاتفه مغرداً لدرجة تدفع مستشاريه إلى وضع أيديهم على قلوبهم، وموحياً للآخرين في نفس الوقت بشخصية الجار غير الودود، أو زميل الدراسة المتنمر؛ لذا لا يمكننا التوقع بأن شخصاً تجتمع فيه هذه الصفات سيقبل المقارنة الاعتيادية بين السلف والخلف بطريقة هادئة وطبيعية.

أما أوباما الشاب القادم من هارفارد، صاحب الكاريزما الطاغية والثقافة الواسعة والخطب الآسِرة التي يسعد بها الجموع ويبكيها متى ما أراد، ويبث من خلالها الأمل متى ما اقتضت الضرورة، حتى غدت علاقته بالناس أقرب إلى علاقتهم بنجوم الغناء والسينما أكثر من كونها مع سياسي، فلم يبذل اختصاصيو لغة الجسد الكثير من الجهد لتحديد المشاعر التي اعترت كلا الرجلين في اللقاء التقليدي التاريخي الذي جمعهما بالبيت الأبيض، عقب فوز ترامب، فقد بدا الأخير كتلميذ في حضرة أستاذه لكنه أمام غريمه تبدو علامات التقوقع الدفاعي واضحة في حركاته وسكناته، كمن يجاهد للحؤول دون انكشاف حجم مقدراته، بينما كانت حركات أوباما تنم عن الضجر؛ لذا كان الانطباع السائد لدى متابعي هذا اللقاء هو أن ترامب يستبطن في لا وعيه ترجيح الكفة لصالح أوباما عند المقارنة بينهما، وأن هنالك عقدة تقض مضجعه تجاه أوباما، وسيظل شبح المقارنة مخيماً على تفكيره طوال فترته الرئاسية أو ربما بعد انقضائها حتى.

من أبرز الآليات التي يستخدمها الشخص لإخفاء مشاعر الدونية إنفاق الكثير من الجهد والوقت لبناء جدار من حوله، حتى يخفي عيوبه ويمنع الآخرين من رؤيتها، فيظهر في تصرفاته أنه متفوق على غيره، ويصر دائماً على أن رأيه هو الأفضل، ويسعى إلى تخفيض قيمة الآخرين، وعلى ضوء ذلك يتصرف بكل غرور وينزعج من أي نقد.

يعي ترامب جيداً لو أن النزال الانتخابي كان قد جرى فيما بينه وبين سلفه، لكان الفارق مريحاً لصالح أوباما الحائز على أعلى نسب الرضا الشعبي لرئيس يهم بالمغادرة، ويدرك كذلك أن المرشحة هيلاري كلينتون لم تكن إلا واجهة لأوباما وامتداداً لحقبته إذا قُدّر لها الفوز، ولم يكن لافتاً للنظر ملاحظة أنها لا تأخذ حيزاً مهماً من تفكير ترامب، كما بدا بعد انتهاء السباق الرئاسي، على الرغم من الصفعات التي كالتها له في خضم السباق الأكثر فضائحية في التاريخ الأميركي، فخسارتها المدوية لصالحه، وخروجها كمرشحة محطمة تفتقد إلى التعاطف من قِبل قطاع واسع من مناصريها عقب تفجّر فضيحة التواطؤ على المرشح الآخر "بيرني ساندرز"، داخل أروقة الحزب الديمقراطي.

بالإضافة إلى أن قضية البريد الإلكتروني قد أظهرتها كشخص غير جدير بالثقة، والمتسبب الوحيد في الخسارة بنظر الناس فكان كل ذلك كافياً لرد الاعتبار لترامب، هذا فضلاً عن كونها امرأة، فسجل ترامب الحافل بمضايقة النساء يشي بطبيعة نظرته إليهن، كما أنها بيضاء، إذ لا يمكن تجاوز العامل العرقي مع شخص مثل ترامب صاحب القاعدة العريضة في أوساط الجماعات التي تدعي تفوق العرق الأبيض والجماعات العنصرية الأخرى ذات الأثر الملموس في رصف الطريق له صوب البيت الأبيض، والذي لم يضم إلى فريق حملته الانتخابية أو حلقته الرئاسية الضيقة بعد ذلك أية شخصية سوداء.

لا شكَّ في أن المؤرخين سيعكفون مستقبلاً على دراسة شخصية دونالد جون ترامب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية وفترته الرئاسية كظاهرة فريدة أكثر من أنها حقبة رئاسية عادية، كما هو الحال مع غيره من الرؤساء السابقين الآخرين.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد