منذ أكثر من شهرين، وحين خُضتُّ بقلمي بحرَ تدوينةٍ مؤلمة، بعنوان: "سمية ماهر.. الحدُّوتة التي أدمت المُقَل"، لم أكن أتخيل أن يمرَّ أكثرُ من مائة يوم على ذات الحال، وأبدأ في خطِّ أسطرٍ أخرى، في محاولة مستمرة لإيصال صوتٍ، أو توثيق جريمةٍ بشعةٍ يخوضها النظامُ المصري ضد الفتاةِ الحاصلة على بكالوريوس العلوم من قِبلة العلم؛ جامعة الأزهر.
تسعة أيام بعد المائة مرَّت -لحين كتابة تلك الكلمات- شهدت أحداثاً عديدة، أبرزها كان ظهور "سُمية" بعد إخفاء قسري دَامَ شهرين، على قضيةٍ أحدَثَ بشأنها النظامُ المصريُّ وإعلامُه ضجةً كبيرةً -ووسم متهميها بالجواسيس لصالح دولة تركيا- سُرعان ما هدأت تلك الضجة حين توالت التحقيقات التي شهدت انتهاكاً بالمخالفة للقانون، وهو منع المحامين من حضورها، والتضييق عليهم، ورفض طلبات الدفاع بتصوير أوراق القضية للاطلاع عليها، واكتفت نيابة أمن الدولة العليا بإخبارهم أن "سُمية" مُتهمة بالانضمام إلى جماعة محظورة!
لم تَدرِ أسرة "سُمية" يومها أتفرحُ لما أعلنته النيابة، أم تبكي لما حدث لـ"عروسِ" الأسرة التي لم يرَها غيرُ إحدى المحاميات لدقائق معدودة أغرقتها الدموع كما حكت شروق سلام- محامية، يوم الخامس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي، التي قالت إنها خلعت روب المهنة جبراً، وارتدت ثوب الأمومة لتحتضن الفتاة لدقائق محدودة، سمح بها وكيل النيابة على مضض.
"… معرفش أنا فين، قاعدة في أوضه انفرادي مقفولة عليَّ 24 ساعة وبس" كانت تلك إجابةً كافيةً -من سُمية حين سُئلت عن مكان احتجازها الاستثنائي- لوصف هذا النظام بالفاشي، ونعت النخوةِ بـ"الفقيدة"، فيما يُصِّرُّ نظامٌ بالكاملِ بدءاً من رئيس جمهوريته ومروراً بقضائه ونيابته على ارتكاب جريمة بحق الإنسانية وإخفاء مكان احتجاز فتاة تبلغ من العمر 26 عاماً، رغم بدء التحقيقات في القضية التي يُحقق معها فيها.
ويمكنني أن أتخيل شكل غرفة في مكانٍ مجهول لاحتجاز فتاة خطِرةً -بوصف النظام- يمكن أن تبلغ مساحتها مترين، بها نافذة تتوق لرؤية الشمس وأشعتها، أربعة جدران تُشعُّ سقيعاً في ظلِّ الطقس الذي نعيش، سقفٌ قاتل حين التأمل فيه، ليس بها مكانٍ لقضاء الحاجة، مُثبت بها عدد من الكاميرات لانتهاك خصوصية من يسكنها، ليلُها كنهارِها، خاوية أرضها على عروشها إلا من الضحية التي لا تعرفُ متى تنتهي فترة بقائها فيها، فضلاً عن عدم معرفتها سبب البقاء.
وبالرجوع لبعض النصوص والمواد التي تحرم الانتهاكات بحقِّ المحتجزين، نجد أن المادة العاشرة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تنص على "أن يعامل جميع الأشخاص المحرومين من حريتهم معاملةً إنسانيةً، مع احترام الكرامة المتأصلة في الإنسان"، كما يؤكد الدستور المصري في مادته 51 على هذا المعنى، فالكرامة حقٌّ لكل إنسان.
وتشير قواعد الحد الأدنى لمعاملة المحتجزين إلى الحق في الرعاية الصحية ضمن 5 قواعد من القاعدة 22-26، كما نصَّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على هذا الحق، حيث أكد نصُّ الإعلان على اعتبار الصحة الجسمانية والعقلية عموماً حقاً تنص عليه المادة 25، ولا ينبغي أن يؤثر وجود المواطن محتجزاً في أحد مقارّ الاحتجاز على اكتسابه هذه الحقوق.
وحين نجد أن النظام المصري الحالي على مدار أكثر من أربع سنوات ينتهك ما ذكرتُه وأكثر انتهاكات صارخة، ولمّا نجدُ أن مصلحة السجون ووزارة الداخلية المصرية تنفي وجود "سُمية"، أو قيدها على قوة أية سجن عمومي أو مركزي لديها حتى اليوم، فإننا لا نملك غير الاندهاش ومواصلة التساؤل "سُمية فين؟"، و"ماذا ينتظر النظام الحاكم للإفصاح عن مكان احتجازها والسماح لأهلها برؤيتها؟"، خاصة بعد ما وُجه لها من اتهامات واهية، لزعم تقنين وضعها، ليكممَ أكبر قدرٍ من الأفواه.
وأخيراً، حين ألقتنا الأقدار في غياهب السجون، وقضينا أحكاماً ظالمة وما زلنا ننتظر بقية حلقات مسلسل أقدارنا، كنا نظن أن ما مرَّ بنا لهو أسوأ ما يمكن أن يرتكبه النظام الحاكم في مصر، ولم أتصور يوماً أن أكتب كلماتٍ أطالب فيها بمجرد الإفصاح عن مكان احتجاز "فتاة"، أو نقلها لسجن عمومي، وهو ما بات أقصى الأماني، إلى أن تطل علينا حلقة مسلسل الرعب ذاك، الأخيرة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.