الثورة بين أصحاب الضمائر وأصحاب القبور

أصحاب الضمائر الحية سمعوا النداء، وعرفوا أن مكانهم الطبيعي في قلب الثورة وبين الثوار، كانت هذه الثورة سبباً في أن يعرفوا أنهم يستطيعون التغيير، يستطيعون أن يكونوا مؤثرين

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/31 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/31 الساعة 02:00 بتوقيت غرينتش

انقسم الناس حول ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني وغيرها من ثورات الربيع العربي، وكذلك هم يفعلون إذا وقفوا أمام حدث عظيم، فمنهم مَن يرى فيها جزءاً من مؤامرة كونية تهدف إلى تقسيم مصر وباقي بلدان الربيع العربي، وتسمع الواحد منهم يعدد لك الآثار الكارثية التي نتجت عن الثورة، ويقارن بين "النعيم" -ذلك النعيم الذي لا وجود له إلا داخل رأسه السقيم- الذي كانت البلاد تسبح فيه قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير وأخواتها من ثورات الربيع العربي، والجحيم الذي تصطلي به البلاد بعدها، متجاهلاً أن هذا الجحيم الذي اشتعل في بلداننا لم تشعله إلا الثورات المضادة التي رفض مشعلوها أن يتصوروا أنفسهم إلا حكاماً لبلادنا العربية، وعلى رأسها مصر.

وأفضل تشبيه سمعته عن أصحاب هذا الرأي أنهم كأهل حي تراكمت القمامة في شوارعه حتى أضحت جبالاً لا ترى العين المجردة قِممها المنتنة، فتطوع بعض أهل الحي واقتطعوا من أموالهم وغامروا بصحتهم ليزيلوا بأنفسهم تلك الجبال القذرة، فلما بدأوا في حملتهم وأزالوا بعض قمم جبال القمامة زادت الرائحة بشاعة؛ لأنها كشفت عن قمامة كانت مكتومة لسنوات وسنوات حتى تعفنت، فاتهم سفهاء الحي القائمين على النظافة بأنهم هم السبب في هذه الرائحة البشعة، بدلاً من أن يحاسبوا من جعل هذه الأماكن أكواماً من القمامة، وفي الليل قاموا بإحراق المعدات التي تستخدم في النظافة، واغتيال ثلة من دعاة النظافة في الحي!

والبعض الآخر يرى في ثورات الربيع العربي الحدث الأعظم والأبرز خلال القرنين المنصرمين، فهذه الثورات هي التي أثبتت أن شعوبنا حية لم تمُت، على الرغم من كمّ القمع والإذلال الذي تعرضت له هذه الشعوب الأبية على مدى عقود من الزمان، ويرون أن شعلة الحرية المقدسة ظلت متقدة، تتوارثها الأجيال كابراً عن كابر، إلى أن نجحت في تبديد الظلمة الكثيفة التي فرضتها الأنظمة الاستبدادية التي جثمت على صدر الأمة.

ولقد سمعت بالأمس هذه الآية: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [سورة فاطر: 22]، فخطرت ثورة الخامس والعشرين من يناير برأسي على الفور، ووجدتني أفكر في أن هذه الثورة المجيدة كانت سبباً رئيسياً في إيقاظ الوعي لدى قطاعات عريضة جداً من شعوبنا العربية، فهذه الثورة أسمع الله بها من به خير، وحرره من ربقة الخوف الذي كان مسيطراً على نفسه، متغلغلاً في شغاف قلبه، هذه الثورة ميّزت أصحاب الضمائر التي بقي فيها ولو حتى نبض ضعيف من حياة، وبين هؤلاء الذين يتجولون بيننا بقبور متحركة يحملونها في صدورهم وقد يسمونها ضمائر.

أصحاب الضمائر الحية سمعوا النداء، وعرفوا أن مكانهم الطبيعي في قلب الثورة وبين الثوار، كانت هذه الثورة سبباً في أن يعرفوا أنهم يستطيعون التغيير، يستطيعون أن يكونوا مؤثرين، فمن كان يتخيل أن مبارك -هذا الطاغية الذي أذاق شعبنا الهوان، وأطعمه الطعام المشبع بالمبيدات المسرطنة، وأفسد أخلاقه بإعلامه القذر، وأجدب كل مرافق الدولة، فكان الفساد في عهده "للركب" حسب تعبير رئيس ديوانه- من كان يتخيل أن يزاح مبارك، وحتى إذا مات مبارك فسيحكمنا جمال مبارك، من كان يتخيل أن يقف مبارك الذي كان له ملك مصر ونهر النيل يجري من تحته وراء القضبان ويقف في ساحات المحاكم كمتهم.

هذه الثورة أشعرتنا كمواطنين بقيمتنا وقدرتنا على التغيير، هذه الثورة أماتت الخوف من قلوبنا، ونزعت هيبة الطغاة من صدورنا، صحيح أنها تمر بمرحلة صعبة من حياتها، ولكني على يقين من أنها لم تمُت، فالشيء الوحيد الذي قد يُميت ثورة بهذا الحجم هو أن تقتل كل مَن شارك بها وآمن بقدرتها على التغيير.

ومن أعجب الأشياء أن الثورات المضادة التي قامت لتدافع عن عروش الطغاة، ستخدم ثورات الربيع العربي كلها على المدى البعيد، فالضغط الذي شكلته الثورات المضادة أدى إلى خروج كل من لا يستحق حمل أمانة هذه الثورة على عاتقه، لهوى في نفسه أو ضعف في قلبه أو خلل ذمته، فهذه الثورات المضادة قد أوضحت الفارق الكبير بين الحق والباطل، هذا الفارق الذي قد يتذرع به البعض ويقول إنه مفتون وحائر، فهو لم يعد يعرف الحق من الباطل ولا الصواب من الخطأ.

حيّا الله ثورة يناير وحيّا الله أخواتها من ثورات الربيع العربي، ورحم أبطالنا الشهداء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد