بأيدينا لا بيد ترامب

على مدار سنوات طويلة، كانت الدول العربية تمتثل لقرارات الجامعة العربية بعدم منح الفلسطينيين جنسيات أخرى حفاظاً على القضية الفلسطينية، فالقضية الفلسطينية تتلخص في أرض وشعب، أرض تم احتلالها وطرد أهلها منها،

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/28 الساعة 03:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/28 الساعة 03:17 بتوقيت غرينتش

* ألو.. السفارة الفلسطينية في القاهرة.
– نعم.. كيف نخدمكم؟
* أنا فلسطيني من حملة وثائق اللجوء للفلسطينيين الصادرة من مصر، أريد أن أحصل على جواز سفر فلسطيني.
– ما هي جنسية الأم؟
* مصرية.
– إيش بدك في الفلسطينية؟! احصل على الجنسية المصرية أحسن لك؟!
* لكنني مواطن فلسطيني ومن حقي أن أحصل على جواز فلسطيني، ومتمسك بهويتي!
– يا سيدي سأقولها لك صراحة: هناك تفاهمات مع إسرائيل والولايات المتحدة ودول عربية وإقليمية على تجنيس الفلسطينيين بجنسيات الدول التي يقيمون فيها.. فلا تتعب حالك.

حدث هذا الموقف معي منذ سنوات، وحدث مثله مع ابنة عمي عندما تحدثت مع السفير الفلسطيني في السفارة الفلسطينية في تركيا.

على مدار سنوات طويلة، كانت الدول العربية تمتثل لقرارات الجامعة العربية بعدم منح الفلسطينيين جنسيات أخرى حفاظاً على القضية الفلسطينية، فالقضية الفلسطينية تتلخص في أرض وشعب، أرض تم احتلالها وطرد أهلها منها، وشعب يمثل ما تبقى من دولة فلسطين، ووجودهم يبث الحياة في القضية الفلسطينية، ويقف حائلاً أمام محاولات قتل القضية؛ لأن القانون الدولي يمنع أن يكون هناك مواطن بلا جنسية، وازدواج الجنسية يضع بديلاً لعودة الفلسطينيين إلى بلدهم وإقامة دولتهم.

صحيح أن هناك دولاً عديدة لا تعترف باللاجئين الفلسطينيين كمواطنين فلسطينيين، ولكن إذا كانت هذه هي الهوية الهوية الوحيدة التي يمتلكونها، فإن ذلك يضع العالم أمام معضلة حقيقية تلزمهم بوضع حل للقضية الفلسطينية.

وبعد ثورة يناير/كانون الثاني وتحديداً في عهد رئيس الوزراء المصري عصام شرف سمحت مصر بمنح الجنسية المصرية للفلسطينيين لأم مصرية، وهو ما دفع عشرات الآلاف من الفلسطينيين للحصول على الجنسية هرباً من المعاناة التي يعانيها اللاجئون الفلسطينيون من سوء معاملة وعقبات في السفر وإنهاء الإجراءات الحكومية ودفع مصاريف الجامعات بالدولار والإسترليني، وصعوبات في العمل في الكثير من القطاعات.. إلخ، وهو ما أضر بالقضية الفلسطينية وقضية اللاجئين أشد الضرر؛ نظراً لأن الحكومة المصرية تشترط سحب الوثيقة الفلسطينية من طالب الجنسية مقابل منحه الجنسية المصرية، بحجة أن مصر لا تستطيع إصدار بطاقتين لك؛ إحداهما تقول إنك مصري، والأخرى تقول إنك فلسطيني، وبالتالي فإن حصولك كفلسطيني على الجنسية المصرية يعتبر تنازلاً صريحاً عن الجنسية الفلسطينية؛ لأنك لم تعد تملك إثباتاً على ذلك، إضافة إلى أن ابنك سيحصل على الجنسية المصرية وستنقطع علاقته بفلسطين جملة وتفصيلاً، بما يعني تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين بصورة متعمدة.

بالتأكيد سينظر الكثيرون لي ولإخوتي في تمسكنا بالهوية الفلسطينية على أننا حمقى، نتعامل بمثالية مع قضية تحتضر، وحكومة بلد غير معترف به ترفض هي أيضاً الاعتراف بك، المجتمع الدولي متخاذل، والعربي أكثر تخاذلاً، فلماذا تضيع عمرك؟! دع العالم يحترق!

هذا ما يقال لي بصورة يومية، قد أكون بالفعل أحمق مثل والدي الذي أضاع الكثير من الفرص التي ذكرتها في مقال سابق بعنوان "كيف باع جدي أرضه في فلسطين؟" ولكنني أؤمن أن الانتماء للوطن يجب أن يظهر وقت الشدة، حتى وإن لم أعش يوماً في فلسطين، ولكنني لن أتخلى عن وطن وحق والدي وأجدادي مهما طال الزمن، وانتماؤنا لأرضنا الذي هو حق لنا لن يقل عن انتماء المغتصبين الصهاينة الذين ظلوا لآلاف السنين يسعون لبناء دولتهم على أرضنا.

شخصياً.. أمتلك إقامة في مصر لمدة خمس سنوات تنتهي هذا العام تمنح على اسم الوالدة المصرية، ربما لا تقوم مصر بتجديدها لي لإجباري على الحصول على الجنسية المصرية، ونظراً لأن الوثيقة لا تلزم مصر باستضافة حاملها، فربما يتم إلقائي على الحدود ولا أجد دولة تستقبلني، ربما يتم التضييق علينا أكثر من خلال قوانين أكثر صعوبة في العمل والتعليم وممارسة الحياة اليومية، هواجس كثيرة تطاردني كل يوم حتى إنني أفكر في مصير ابني إذا ما تزوجت من امرأة مصرية، فأنا متأكد من أن الحكومة المصرية سترفض منحه وثيقة فلسطينية مثلما ورثتها عن والدي، وستستخرج له شهادة ميلاد مصرية، وهو ما سيوصلنا إلى نفس النتيجة: تصفية قضيتنا، وتصفية حقوقنا التاريخية بالعودة إلى أرضنا التي أُبعد عنها جدي ووالدي -رحمهما الله- وما زلنا متمسكين بها حتى آخر نفَس في عمرنا.

لماذا أحكي كل هذه التفاصيل؟ لأنني أريد أن أقول: إننا نحن العرب مَن نتآمر على قضيتنا الفلسطينية، وأول المتآمرين هم السلطة الفلسطينية الذين تخلوا عن قضية اللاجئين التي تضم العدد الأكبر من الشعب الفلسطيني، ظناً منهم أن إسرائيل ستمنحهم جزءاً من أرضنا.

أما العرب.. فقد ساهموا في إجبار عدد لا بأس به من الفلسطينيين على التنازل عن جنسياتهم تحت وطأة التضييق عليهم على كافة المستويات، فهل تعلم عزيزي القارئ أن الدول الأوروبية تعاملنا معاملة أفضل بمراحل من نظيراتها العربية؟ هل تعلم أن فرص دخولنا للدول الأوروبية أكبر بكثير مقارنة بنظيراتها العربية؟! ولم العجب؟! فقد باتت مواقف الدول الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية أفضل بمراحل من نظيراتها العربية، في الوقت الذي يضرب فيه تعظيم السلام للزوار الإسرائيليين عند زيارة العديد من الأقطار العربية للأسف الشديد!

واليوم.. وبعد أن أعلن ترامب قراره نقل السفارة إلى القدس، أؤكد أننا نحن العرب أول مَن تآمر على القضية الفلسطينية، بعد أن خذل حكامها شعوبهم قبل أن يخذلوا القضية الفلسطينية، واستخدموها كحجة لاستمرار أنظمة ديكتاتورية قتلت من أبناء شعبها ما لم تقتله يوماً من إسرائيل، فهل يعقل أن يفشل 350 مليون عربي بكل ما يملكونه من موارد وإمكانيات ضخمة في تحرير دولة مثل فلسطين على مدار 70 عاماً؟!

إن الخيانة والتآمر هما السبب، وشخصياً لا ألوم ترامب ولكنني ألوم حكامنا العرب، فلماذا نتعجب عندما ينقل ترامب سفارة بلاده إلى إسرائيل؟! إن العرب لا يضرون من يأخذ قرارات تضر بمصالحهم، بل يكافئونه بنصف تريليون من الدولارات، هذا إن افترضنا أن هناك تعارضاً في المصالح بين الكثير من الأنظمة العربية وإسرائيل؛ لذلك فالمعادلة بسيطة: العرب لا يضرون بل يستمرون في العطاء لمن يبصق عليهم ويصفهم بـMoney Machine، بينما تمتلك إسرائيل سياسة العصا والجزرة، فمن الطبيعي أن أركل العربي حاصلاً على ماله وأن أجامل الإسرائيلي أملاً في الحصول على الجزرة منه وتحاشي الضرب بالعصا الإسرائيلية الغليظة.

لا تصدقوا التنديدات العربية لقرار ترامب، الحقيقة أن الأنظمة المتهالكة التي تحكم منطقتنا لا تأبه بمبادلة القدس برام الله، أو أي مدينة أخرى، المهم أن تنتهي القضية ونتخلص من صداعها وتتركنا إسرائيل نقمع شعوبنا ونعيش على خيراتها، لا تكترثوا بتسمية العام بعام القدس، بل نحن نسميه عام تأكيد ضياع القدس، فقد ضاعت القدس منذ عشرات الأعوام، وتسمية القدس للعام الذي نعيشه لن يرجع القدس إلينا.

دعكم من تتنديدات العرب، ففي الكواليس يتآمرون لتنفيذ صفقة القرن لإقامة الدولة الفلسطينية في الشريط الحدودي لقطاع غزة وجزء من أرض سيناء، لن يقبل الفلسطينيون بذلك، ويبقى الشعب الفلسطيني هو العقبة الأبرز في وجه هذ المخطط، فلن يترك الفلسطينيون منازلهم، ولن نتخلى عن هويتنا مهما تكبَّدنا من خسائر ومهما ضيّق علينا، ربما أُجبر الكثيرون على التخلي عن هويتنا تحت الضغوط المعيشية، لكنني وإخوتي والعديد من الفلسطينيين حول العالم ما زلنا متمسكين بها مهما كلفنا ذلك من ثمن، وما زال الفلسطينيون في خط المواجهة الأول دفاعاً عن المنطقة بأكملها في وجه السرطان الصهيوني الذي ما زال يسعى لإقامة دولته من النيل إلى الفرات، وإذا ضحيتم بفلسطين اليوم اعلموا أنكم تضحون بسيناء والجولان والأردن ولبنان والعراق غداً، إنها مسألة وقت ليس إلا.

أعلم أن الخيارات المطروحة أمام السلطة الفلسطينية محدودة للغاية، عملية السلام ثبت بالدليل القاطع أنها خُدعة، العرب يتعاونون مع إسرائيل، لا تستطيع السلطة أن تتخذ مواقف عنترية، أميركا تساومهم بالدعم المادي، والدعم العربي والأوروبي من الممكن أن يتوقف أيضا لو اختارت المقاومة، حركة فتح تعاني بشدة ومنقسمة ومخترقة، ناهيك عن الخلاف مع حماس، والواقع العربي من سيئ إلى أسوأ، فعواصمنا العربية محتلة شأنها شأن القدس، وحكامنا خونة ينفذون تعليمات العم سام أملاً في أن يتركوهم في كراسيهم، وفي حالة تذمرهم يكون البديل جاهزاً للأسف الشديد.

خطابي الآن موجه في المقام الأول للسلطة الفلسطينية، فبعد أن خلفت أميركا وإسرائيل بوعودهما تجاه عملية السلام، ما زال أمامكم التمسك باللاجئين الفلسطينيين فهم سندكم الأول، ومصدر دعم لكم يمكنكم الاستفادة منه مادياً وسياسياً، فاللاجئون ينتشرون في كل دول العالم، وكما نجح اليهود في شتى بقاع الأرض في إنشاء دولة إسرائيل، يمكننا نحن الفلسطينيين أن نفعلها ونعود لأرضنا، لذلك لا تتخلَّوا عنا، استفيدوا من رؤوس الأموال التي بحوزة اللاجئين، ومناصبهم في جامعات أوروبا، يمكنكم أن تصنعوا لوبي فلسطينياً على غرار اللوبي الإسرائيلي في الخارج.

أما بالنسبة للحكام العرب، فنحن لا نطالب بمساواتنا بأهل البلد الذي نعيش فيه، ولكن نطالب فقط بالتخفيف من الضغوط والقوانين التي تضعونها علينا، عاملونا كنصف مواطن إسرائيلي، لا نطلب أكثر من ذلك.

هنالك ما يقرب من 10 ملايين فلسطيني، يحملون وثائق تثبت هويتهم، سواء كانت صادرة من السلطة أو مصر أو العراق أو الأردن أو لبنان أو سوريا، لن يتخلوا عن أرضهم أو قضيتهم، فهذا ما عاهدنا آباءنا ووطننا والله عليه.

ولا أجد سوى أن أختم مقالي بكلمات الأخوين الرحباني، التي لن نتوقف عن غنائها؛ ليظل صوت فيروز شاهداً على حقنا في العودة إلى أرضنا:

سنرجع يوماً إلى حينا
ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان
وتنأى المسافات ما بيننا

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد