ارتبطت الإمارات، بدورها، مع الصومال بعلاقات يعود تاريخها لأواخر الستينيات، وفي أعقاب الحرب الأهلية الصومالية مطلع التسعينيات، حافظت الإمارات على علاقاتها مع الحكومات الانتقالية الصومالية، عبر نشاطها في مجال المساعدات الإنسانية.
لكن مع دخول تركيا في الساحة الصومالية منذ الزيار التاريخية التي قام بها الرئيس التركي إلى الصومال، على أثر موجة الجفاف التي ضربت الصومال في عام 2011، وبعد أن ظل اسم الأتراك عَلماً متعارفاً عليه بين الصوماليين خلال فترة وجيزة- أصبحت الإمارات تتحرك بكل قوة؛ بسبب الوجود التركي الذي أثار حفيظتها، لتلجأ إلى التدخل في الشأن الصومالي، ولكن بدرجة أقل مما هو عليه الآن.
لكن، اشتدت حدة التدخلات الإماراتية في الشؤون الداخلية للصومال في أعقاب أزمة الخليج التي اندلعت في يونيو/حزيران 2017، وذلك عندما دعت الإمارات الصومال للانضمام إلى مقاطعة قطر، ظانةً أن القرار الصومالي سيكون أسيراً في يدها بمجرد توفير سيولة مالية لشراء ذمم الصوماليين، بيد أن الرئيس الصومالي، محمد عبد الله فرماجو، قرر البقاء محايداً ودعا إلى حل النزاع بين الأشقاء عبر الحوار.
في إطار ردها على القرار الصومالي بشأن الأزمة الخليجية، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة علناً حرباً ضد الحكومة، بعد أن قدمت دعوة رسمية لرؤساء الولايات الفيدرالية إلى أبوظبي للتنديد بموقف الحكومة الفيدرالية المحايد بشأن الأزمة الخليجية. وقد قام هؤلاء الرؤساء الإقليميون برحلات إلى دولة الإمارات، وتم وضع خطة عمل ضد الحكومة الاتحادية، الهدف منها خلق جمود سياسي وفوضى في البلاد وإضعاف الرئيس "فرماجو"، أو توفير سيولة مالية وموارد لازمة لتعبئة النواب ومجموعات الضغط للإطاحة بالحكومة.
وقد استخدمت الإمارات سماسرة صوماليين ظلوا تحت تأثيرها كخيار سافر للإطاحة بالحكومة الصومالية؛ رداً على موقفها تجاه الأزمة الخليجية من جهة، ولمواجهة مصالح تركيا التي تقيم علاقات أوثق مع الحكومة الصومالية من جهة ثانية.
وخلال الزيارة التي قام بها الرئيس الصومالي، محمد عبد الله فرماجو، إلى أبوظبي بعد الأزمة الخليجية، أجرى محادثات مع رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وتعهد الأخير بأن بلاده ستشارك فى عملية إعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب في الصومال.
ومع ذلك، فإن الرئيس الصومالي كان حذراً من سياسة الإمارات تجاه بلاده، وفقاً لمصادر إعلامية. وبحسب المصادر ذاتها، فقد طلب الرئيس الصومالي من الإمارات وضع حد لسياساتها بالوكالة التي استخدمت فيها الإمارات سماسرة صوماليين ضد حكومته.
ومع ذلك، ما زالت الإمارات تمارس ما يعرف بسياسة "الكيل بمكيالين"، حيث ما زالت الحكومة الصومالية تواجه عقبات كبيرة؛ بسبب استخدام الأولى السماسرة أنفسهم، في محاولة منها لإرضاخ الصومال.
فقبل يومين فقط من قيام الرئيس الصومالى بزيارته إلى دبي، أرسلت حكومة الإمارات عمر عبد الرشيد شرماكي، رئيس الوزراء الصومالي السابق والمستشار السياسي الرئيسي لها في شؤون القرن الإفريقي، إلى نيروبي؛ لإجراء محادثات مع المعارضة الصومالية، وذلك في إطار حملة سياسة إماراتية جديدة ضد الحكومة الصومالية، على أمل إرغامها على التخلي عن موقفها المحايد.
وبالتزامن مع ذلك، فإن الإمارات منحت الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) -وهي إقليمية تضم عضويتها الصومال- 15 مليون دولار أميركي، وفقاً لموقع (alleastafrica.om)؛ وذلك من أجل تعزيز حملتها ضد الحكومة الصومالية، التي تعتبرها الإمارات عقبة رئيسية في جهودها الرامية إلى تقليص الدور التركي الذي لاقى ترحيباً من الشارع الصومالي.
أثارت مساعي دولة الإمارات للسيطرة على عدد من أكبر وأهم الموانئ في الصومال أيضاً، مخاوف الصوماليين على سيادة بلادهم، حيث وقَّعت موانئ دبي العالمية، في وقت سابق، عقدين منفصلين لمدة 30 عاماً لتشغيل ميناءين رئيسيين مع أرض الصومال وولاية بونتلاند الإقليمية، كجزء من صراع إقليمي مع تركيا، التي تحتفظ بعقود طويلة الأجل لإدارة ميناء ومطار مقديشيو في الصومال.
وباستخدام النفوذ السياسي والدبلوماسي والمالي على حد سواء، فإن الإمارات لم تهتم يوماً بالبحث عن إذن الحكومة في تعاملها مع كل من صوماليلاند -التي أعلنت انفصالها عن الصومال في عام 1991- وإدارة بونتلاند. ولا شك في أن الصومال الذي يعاني النفوذ السياسي المتنامي لدولة الإمارات، يعتبر هذه الخطوة بمثابة "عدم احترام صارخ" لسيادته.
تدمير الصومال من أجل علاقته مع تركيا هو مسألة أخرى ينبغي الإشارة إليها؛ إذ إن الحسابات الجيوسياسية لدولة الإمارات تغيرت بعد فترة قليلة من بروز الدور التركي في الصومال، ليبرز إلى العلن نشاط إماراتي مشبوه كرمز إلى الجوانب السياسية والأمنية أكثر من الجوانب التنموية، بهدف تضييق الخناق على الدور التركي الذي يتميز عن غيره؛ بسبب التوازن الكبير بين الجانب الإنساني التنموي والاقتصادي من جهة، والمجال السياسي والأمني من جهة أخرى؛ الأمر الذي خلّف انطباعاً حسناً لدى الشارع الصومالي، بخلاف الدور الإماراتي الذي يعتقد الكثير من الصوماليين أنه سرطان ينهش في جسد الأمة الصومالية.
شهد الصومال أيضاً ما يمكن وصفه بـ"حرب القواعد العسكرية"؛ حيث أنشأت أنقرة أكبر قاعدة عسكرية خارج بلادها لتدريب الجيش الصومالي. ومن الواضح أن الإمارات استيقظت بشكل مفاجئ على أهمية الصومال وموقعه الاستراتيجي، وفي ظل دور تركي إيجابي وبارز، مما جعلها تتحرك لتدمير الصومال كعقاب على علاقاته المتينة مع تركيا، التي أثبتت جدارة كبيرة في مشاريعها التنموية والعسكرية في الصومال، بخلاف المشاريع الإماراتية التي اتخذت طابعاً تدميرياً؛ لكونها باتت مسيسة.
إلى جانب ذلك، تحاول الإمارات تشكيل قوة من المرتزقة، بالتعاقد مع مؤسس شركة "بلاك ووتر" سيئة السمعة، وذلك بعد أن رأت أن نقل تجربتها الوحشية والبشعة من ليبيا وسوريا وجنوب اليمن إلى الصومال، هو الحل الأمثل لفرض سيطرتها، مستحدمةً أساليب الترويع والترهيب، وتشكيل قوة جديدة من المرتزقة تابعة لشركات يملكها مؤسس شركة "بلاك ووتر"، إلى جانب شركة "ساراسين إنترناشينال"، وهي شركة غامضة من جنوب إفريقيا كانت تقتل المعارضين لحكومة الأقلية البيضاء في عهد الفصل العنصري.
وفي هذا الإطار، فقد وصل مؤسس شركة "بلاك ووتر"، إرك برينس، إلى مقديشيو الأسبوع الماضي، في زيارة استغرقت يومين وباستضافة السفارة الإماراتية في مقديشيو، حيث كان مقيماً فيها.
وتهدف المشاريع التي ينوي إقامتها برينس والإمارات في الصومال، إلى تدريب 17 ألفاً من المرتزقة، موزعين على 3 معسكرات، وهي: المعسكر التدريبي الإماراتي في مقديشيو (5 آلاف)، والآخر في ضواحي مدينة براوي الساحلية (5 آلاف)، والثالث بمدينة بوصاصو في إقليم بنتلاند (5 آلاف). إضافة إلى ذلك، فإن أبوظبي تسعى في الوقت الحاضر إلى جلب عدد كبير من المرتزقة من أميركا اللاتينية.
ويأتي تحرك "بلاك ووتر" في وقت تتحدث تقارير استخباراتية عن وجود سجن سري للإمارات يقع تحت مسجد بمعسكرها التدريبي في مقديشيو. ولعل ما يؤكد ذلك هو أن القوة العسكرية التابعة للإمارات في مقديشيو تقوم بتنفيذ عمليات اعتقال لمواطنين صوماليين وتقوم باستجوابهم، وفقاً لمصدر أمني صومالي فضل عدم ذكر اسمه؛ لحساسية الموضوع.
اتسم الدور الإماراتي في الصومال أيضاً بمنظور أمني سياسي طاغٍ على باقي جميع الجوانب التنموية، بدءاً من شمال شرقي البلاد إلى مقديشيو، وانتهاء بالجنوب في كسمايو.
ففي أعقاب المعاناة التي تعرض لها الصومال جراء التفجير الإرهابي الكبير الذي حدث في أكتوبر/تشرين الأول 2017، وأسفر عن مصرع 358 شخصاً، ألقت التقارير الإخبارية العالمية اللوم على حركة الشباب، متجاهلةً وبشكل كامل أن الصومال بات ضحية للجغرافيا السياسية، التي تسعى من خلالها دولة الإمارات العربية المتحدة للسيطرة على الصومال، وإبادة سكانه عبر الحروب والإرهاب والكوارث، علماً أن ناشطين ومغردين وجهوا أصابع الاتهام إلى الإمارات فور الحادث.
اتهم النائب العام الصومالي أحمد علي طاهر، منتصف ديسمبر/كانون الأول 2017، اثنين من أعضاء البرلمان بتلقي مبالغ مالية ضخمة من جهة أجنبية بهدف تقويض الحكومة، وخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني في البلاد.
وعلى الرغم من أن النائب العام لم يذكر دولة بعينها في اتهاماته، فإن ما يؤكد أن الاتهامات كانت موجهة إلى أبوظبي، هو المداهمة التي نفذتها قوة عسكرية تابعة للإمارات، بعد 10 أيام فقط من تصريحات النائب العام، على منزل العضو في مجلس الشيوخ الصومالي عبدي حسن عوالة قيبديد، الذي قال في تصريحات إعلامية: "إن قوة تابعة للإمارات هاجمت المنزل وحطمت بوابته الرئيسية".
وكان الهدف الإماراتي من المداهمة هو تصفية السيناتور جسدياً؛ تحقيقاً لأهداف ومرامي قذرة، وخلق حالة فوضى في مقديشيو وزلزلة المشهد السياسي والأمني؛ ومن ثم دس مجموعات مسلحة موالية لها في هذه الفوضى والانقلاب على الشرعية لاحقاً.
يضاف إلى ذلك، التحركات غير القانونية -وفق توصيف تقارير دولية- التي تواصلها الإمارات داخل الصومال من تصدير للفحم، وهو ما يقوض جهود مكافحة "الإرهاب"، وتتلقى حركة الشباب نحو 10 ملايين دولار سنوياً من تجارة الفحم غير المشروعة، وما زالت مدينة "دبي" وجهة التصدير الرئيسية.
إن سياسة "الكيل بمكيالين" التي تنتهجها دولة الإمارات العربية المتحدة في تعاملها مع الصومال، ستؤدي -وبلا شك- إلى تعقيد أكثر لهباً على حقول الألغام السياسية في الصومال. ولا ينبغي لأحد أن يفاجَئ بما تقوم به الإمارات؛ إذ إنها لم تُظهر يوماً تضامناً حقيقياً مع الصومال -إسلامياً أو عربياً- عندما كان يعاني المجاعة والحروب عقوداً.
فالسياسات التخريبية التي تنتهجها الإمارات هي ما ترفضه مقديشيو ولو بشكل مبطن ودون إعلان. فرغم أن الحكومة الصومالية ما زالت تتجنب مواجهة الإمارات العربية المتحدة علناً، غير أنها ربما أثارت المسألة مع الشركاء الدوليين؛ في محاولة منها لمواجهة أزمة سياسية محتملة بالبلاد قد تحركها أبوظبي؛ لأن التدخل الإماراتي السافر ضاقت الحكومة به ذرعاً وبات أمراً مطروحاً أمام البرلمان الصومالي لمناقشته، الأمر الذي يبرهن على أن الوجود الإماراتي في الصومال غير مرغوب فيه؛ ومن ثم لن يبقى كثيراً على الساحة.
لا أحد يرفض أن يكون لدولة الإمارات العربية المتحدة أهداف جيوسياسية كغيرها من الدول، غير أن تصرفاتها كفيلة لمعرفة نواياها التدميرية باعتبارها اتخذت سلوكاً عدائياً نحو الصومال.
وعلى العموم، يبدو أن دولة الإمارات العربية المتحدة وحكامها استيقظوا فجأةً بعد أن أدركوا أهمية الصومال وموقعه الجيوسياسي، الأمر الذي جعلهم يتخذون وسائل تدميرية كعقاب على صداقة الصومال وتحالفه مع تركيا من ناحية، وموقفه الحيادي تجاه أزمة الخليج من ناحية ثانية.
لكن، إذا كان الصومال في غاية الأهمية بالنسبة للإمارات، فلماذا لم تستخدم مواردها لمساعدة الصومال في التعافي من الحرب والمجاعة بدلاً من الغطرسة السياسية ومحاولاتها اليائسة للمضغ أكثر مما يمكن ابتلاعه؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.