عابر سبيل بين أسوار القدس

وما زالت رائحة الأنبياء وقشعريرة الوجود النبوي هناك على الرغم من تعاقب الزمان واستيطان المكان من العديد من المغتصبين وتلقّي الهزائم وتحقيق الانتصارات،

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/21 الساعة 02:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/21 الساعة 02:56 بتوقيت غرينتش

أروع ما فيها العشق الذهبي بلون قبتها، وعشق المكان ورائحة الهواء والصخور العتيقة وزرقة السماء، وفيها الأرواح التي تسكنها والأرواح التي سكنتها ومرت عليها على مر السنين ولمستها بنقاء، وتميزها باصطفائها باستقبال بمن مروا من الأنبياء بين حضرة الخالق يصلون إيماناً بخالقهم وإيمانا بقدسية وإسلامية المكان، وهناك دبَّت على أحجارها معجزة الانطلاق من عالم الدنيا إلى العالم الأزلي.

وما زالت رائحة الأنبياء وقشعريرة الوجود النبوي هناك على الرغم من تعاقب الزمان واستيطان المكان من العديد من المغتصبين وتلقّي الهزائم وتحقيق الانتصارات،

إلا أن توقف زماننا اليوم بمحتل شوَّه الصورة الجميلة لموطننا القديم الحاضر في أذهاننا، وتبقى القدس ينبوع الجمال وفيضاً من الحب يلمس كل عابر سبيل يمر على القدس، يسكنه الإيمان وتغلبه الدموع بين ممراتها وجدرانها، ويخجل العابرون من إظهار الدمع فيلحفون أعينهم من المحتل بلثام العروبة التي ما زالت قيد الانتظار.

وفي القدس وجع مضى، وألم حاضر وسماء تتساءل باشتياق: أين تقع سمائي بين جيراني من العرب؟ وتسأل عن أيام وحدتنا أين أجدها؟ وتسأل السحب أين أمطر دموع الضياع تسعة وستين عاماً من التشرد والضياع بغير وجه حق على أرض منحت دون حق امتلاك واتصفت بالضياع بكل ما تحمله من أرواح وأحجار تلخص قصة الحضارة المتجذرة والتين والزيتون من آلاف السنين؟

لقد أوجعتنا هذه الأرض وتاهت في أفق بعيد تنتظر من ينصفها، وتبحث عن كل شيء، كان مصدر جمالها وسعادتها وابتهاج ساكنيها، وتسأل: هل من أحد يُرجع صلاح الدين ويجمع شتات الأمة لحضن عروبتها؟ ويسأل العرب عن حال قدسنا وعن سمائها وشمسها وقمرها، وتبحث عن حضور الماء في مجاريها، وبريق الشمس متى يسطع في قبابها من جديد؟ فلا تجد غير قطرات المطر تهطل كالدموع في ليالي الشتاء، تنتظر أن تمسح الحزن عن مدينة السلام، ستظل القدس تسأل عن سمائها التائهة بين السماوات، ولن ترضى باغتصابها تحت غطاء الشمس بين صلوات الأنبياء، بين قبور الأموات الأحياء من أهلها خلف حدود الأرض من عرب وعربي، ماذا أنتم فاعلون لأرض وسماء ضاعت، تاهت، سلبت، سرقت بين أحضان سمائكم يوم تبعثون إلى قاضي الأرض والسماء؟

فهنا القدس فيها ولدوا أجدادنا وعاشوا حياتهم في أرض السلام، هناك هبط عليها الملائكة وعانقوا سماءها وانشق لها شعاع النور من الأرض إلى السماء السابعة، فكيف تمرون وترحلون كعابري سبيل ولم تقدموا السلام أو تصلوا ركعتين؟

وأنا بيدي حجر وفي عينيّ دمعتان، وفي قلبي حسرة فهم قد رحلوا ولم يقدموا شيئاً، وأنا ما زال لديّ لهفة الانتظار للوصول إلى القدس، فأعبر وأمر وأتحسس جدرانها كالطفل الصغير وألمس النقوش القديمة التي سكنتها منذ آلاف السنين، وما زالت فيها رائحة الحضارات والشعوب التي سكنتها ومرت عليها بسلام، وما زال منقوشاً على جدرانها الشعر، فكل من مروا وصفوا الجمال على جدرانها بشعرهم.

وبينما أنا أمشي مررت على عجوز تجلس على أحد أبواب الحارات العتيقة وبيدها مفتاح ينتظر الأمل، وعلى وجهها تقاسيم تعبر عن تفاصيل المكان المعقدة عن الجدران الصامتة، عن الحواجز المتراكمة عن سيرة الأربعين رجلاً، ودبابتين عن شهداء تلحفوا بوشاح الحرية، وسالت دماؤهم معلنين النضال، فسألتها وأنا أجثو على قدمي: يا جدتي أريد أن أصلي في القدس؟ فهل دللتني عن مكانها، فأشارت هناك فتتبعت الطريق فلم أجد في جدرانها إلا الصمت، وفي طرقاتها إلا الحواجز والحكايات التي تروي قصص الثائرين، إلى أن دنوت من حي يحتضن مئذنة وسمعت نداء يا له من صوت طال انتظاره ينادي: "حي على صلاح الأمم.. حي على شد الهمم"، حتى رأيتها في أفق بعيد محاطة بالأسوار، ولها العديد من الأبواب تكتسيها الأنوار والمئذنة والصليب حتى توقف قلبي بانتظار، فللقدس نصيب من قلبي، وكل الحب والعشق لذلك المكان، وكل الإيمان لسجدتين هناك، وكل الأمل بنصر قريب فما زالت القدس بانتظار.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد