حرب أكتوبر.. حين فتح كيسنجر أبواب التاريخ لفيصل!

كان التضامن العربي المزعوم في الحرب مقروناً على الدوام بمركزية الدور السعودي بقيادة الملك فيصل بن عبد العزيز، الذي قرّر في 17 أكتوبر/تشرين الأول استخدام سلاح النفط في المعركة، فدعا إذ ذاك إلى اجتماع وزراء النفط العرب في الكويت، حيث انتهوا إلى جملة قرارات، كان أبرزها قرار تخفيض الإنتاج النفطي العربي بنسبة 5%، والاستمرار في خفض الإنتاج 5% كل شهر حتى انسحاب إسرائيل الكامل إلى خط الرابع من يونيو/حزيران 1967.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/20 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/20 الساعة 07:00 بتوقيت غرينتش

أجمعت معظم الروايات العربية لأحداث حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 على إكبار "بطولة العرب" ضد "الكيان الصهيوني"، وعملت بمجملها على تكريس فكرة كسرها "أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر"، والأهم من ذلك كله أن تلك الروايات مجّدت باستمرارٍ التضامن العربي إبان الحرب.

كان التضامن العربي المزعوم في الحرب مقروناً على الدوام بمركزية الدور السعودي بقيادة الملك فيصل بن عبد العزيز، الذي قرّر في 17 أكتوبر/تشرين الأول استخدام سلاح النفط في المعركة، فدعا إذ ذاك إلى اجتماع وزراء النفط العرب في الكويت، حيث انتهوا إلى جملة قرارات، كان أبرزها قرار تخفيض الإنتاج النفطي العربي بنسبة 5%، والاستمرار في خفض الإنتاج 5% كل شهر حتى انسحاب إسرائيل الكامل إلى خط الرابع من يونيو/حزيران 1967.

هذا بالإضافةً إلى القرار الأهم لـ6 دول عربية برفع سعر نفطها بنسبة 70%، إلى جانب حظر بعض الدول العربية تصدير النفط نهائياً إلى الدول التي يثبت تأييدها لإسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة.

وهذا القرار الأخير سرعان ما نفذته الدول العربية في الـ20 من الشهر نفسه نتيجة رد فعل واشنطن على مجمل القرارات العربية، حين أعلنت نيتها دعم إسرائيل بـ2 مليار دولار و100 مليون شحنات أسلحة، ما أدى إلى رفع أسعار النفط عدة أضعاف!

لكنّ الروايات العربية المُغرقة بـ"العنتريات" والتي تغنت دوماً بصلابة الملك فيصل أمام الضغوط التي مورست عليه، خصوصاً من قِبل وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك هنري كيسنجر- تجاهلت في المقابل إكمال القصة.

إذ هل يُعقل ألا تقدّم عشرات الكتب العربية عن حرب أكتوبر إجابةً واضحةً عن سؤال كيف انتهى "الحظر الفيصلي" على تصدير النفط وهو الذي شكّل محور التضامن العربي المزعوم؟! بكلمات أخرى، ماذا حصل -يا ترى- للعهد الذي قطعه الفيصل باستحالة إعادة ضخ النفط حتى انسحاب إسرائيل الكامل إلى حدود الـ67؟! ما الذي جرى حقيقةً؟ وهل كان حظر النفط العربي عن أميركا تضامناً عربياً بالفعل أم له مآرب أخرى؟!

يشكك المؤرخون الإسرائيليون، بطبيعة الحال، فيما يتداوله العرب عن حرب "يوم الغفران"، وهم يقدمون إثباتات عدة على أن تلك الحرب ما هي إلا تمثيليّة أخرجها ثعلب السياسة الأميركية كيسنجر منفرداً أو بالاشتراك مع أنور السادات ووزير الدفاع الإسرائيلي حينها، موشيه ديان، بهدف إقامة السلام بين مصر وإسرائيل ونقل مصر من حضن الاتحاد السوفييتي إلى الحضن الأميركي.

ورغم أن تلك الروايات بمجملها لا تلقي بالاً للدور الاقتصادي في الحرب، متمثلاً بقطع الدول النفطية العربية إمداداتها عن الولايات المتحدة ومضاعفة سعر بيعه- فإن كتاب المؤرخ العسكري الإسرائيلي أوري ميلشتاين "انتصار باحتمالات ضئيلة.. حقائق حول حرب يوم الغفران"، الصادر أواخر العام الماضي، يسلّط الضوء على نقطة غاية في الأهمية، يقول فيها إن "الخطة التي وضعها كيسنجر للحرب قد تمّ الاتفاق عليها شفوياً، ولذلك فإذا لم يقم أحد المشاركين فيها بكشف هذا السر، فإنه لن يكشف بعد ذلك أبداً".

وهذه الإضاءة كفيلة بوضع مزيدٍ من إشارات التعجب حول كثير من تفاصيل الحرب الغامضة؛ كإعلان مصر مثلاً وقف إطلاق النار من جانب واحد دون التنسيق مع الجانب السوري، أو الآلية التي جرى من خلالها وقف ثم إعادة ضخ النفط. أما قصّة "بطولة الملك فيصل" خلال الحرب؛ بل قصة الحرب نفسها، فيتكفّل بالكشف عنها البروفيسور الروسي فالنتين كاتاسونوف، المسؤول السابق للمشاريع الروسية في البنك الدولي.

يحيل كاتاسونوف حرب أكتوبر إلى عوامل اقتصادية بحتة، وهو بذلك يوافق واحدة من بدهيات الاقتصاد الحديث، التي تعتبر أن "الحروب ضرورية من أجل استمرار النظام المالي العالمي"، لكن تركيزه ينصبُّ على اعتبار أن "قصة حرب أكتوبر بالذات كانت تخفي جوانب متعلقة بأساس النظام المالي العالمي"، وكيف أنها شكّلت منطلقاً لتغيير جوهر ميثاق صندوق النقد الدولي برمّته حين جرى فصل الدولار عن المعيار الذهبي وربطه بالنفط، ليتشكل ما عُرف لاحقاً بمفهوم "البترودولار".

يقول كاتاسونوف إن فكرة الحرب بين العرب وإسرائيل -التي ستُعرف لاحقاً بحرب أكتوبر أو كما يسميها هو "المكيدة النفطية/النقدية"- لمعت بذهن كيسنجر نتيجة نشوب صراع شديد في سبعينيات القرن الماضي بين مجموعة روتشيلد المعروفة تاريخياً بسيطرتها على الذهب ومجموعة روكفلر المتحكمة في أسواق النفط، وقد نشأ الصراع أساساً نتيجة محاولات عائلة روكفلر فك ارتباط الدولار الأميركي بالذهب وربطه بالنفط.

وحيث إن كيسنجر كان وقتها المستشار غير الرسمي لمجموعة روكفلر، ومع انشغال الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بالاتهامات المتصاعدة الموجهة ضده في إطار ما عرف بفضيحة "ووتر غيت"، تسنى لكيسنجر الاستفراد بهندسة السياسة الخارجية الأميركية، ورسْم سيناريو مكيدته النفطية/النقدية.

بدأ كيسنجر بالقيام بمجموعة اتصالات وزيارات للدول المصدّرة للنفط وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وقد تمكن بدايةً من إقناع الملك فيصل باستعمال الدولار الأميركي فقط كوسيلة لبيع وشراء النفط مقابل وعود قطعتها واشنطن بتزويد الرياض بأسلحة حديثة، وتعهدات بضمان أمنها وبدور قيادي لها في المنطقة، إلى جانب تمكُّنه من إقناع العاهل السعودي بإيداع عائدات المملكة النفطية في البنوك الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لتعود الدولارات مرة جديدة إلى المؤسسات الغربية الأميركية، فيما يعرف بـ"إعادة تدوير الدولار".

وفي مايو/أيار 1973، أي قبل نحو 5 أشهر من حرب أكتوبر، تقرر زيادة أسعار النفط، وذلك خلال انعقاد مؤتمر مجموعة نادي بلديربيرغ المغلق -مؤتمر سنوي غير رسمي يحضره قرابة 100 إلى 150 من المدعوين، معظمهم من أكبر رجالات السياسة والأعمال والبنوك نفوذاً في العالم، ويتم الحديث في المؤتمر خلف جدار من السرية الشديدة حول العديد من المواضيع العالمية والاقتصادية والعسكرية والسياسية- ليكمل كيسنجر بعد ذلك ما تبقى من رتوش لإتمام تمثيلية حرب أكتوبر، التي ستشكل الذريعة أمام العالم لرفع أسعار النفط ووقف ربط الدولار بالذهب والاستعاضة عنه بالنفط.

وفي خريف ذلك العام، اتضحت معالم الغلبة لصالح مجموعة روكفلر النفطية على حساب مجموعة روتشيلد. وبعدها بنحو 3 أعوام، وتحديداً عام 76، عُقد مؤتمر صندوق النقد الدولي في جامايكا، حيث جرى رسمياً ترسيخ انتقال النظام المالي العالمي إلى المعيار النفطي، وإقرار المؤتمر التعديلات التي اقترحت إدخالها مجموعة روكفلر على ميثاق صندوق النقد الدولي، فتم فصل الدولار عن المعيار الذهبي رسمياً وربطه بالنفط.

ربما من الطبيعي أن تخفي كل الحروب أهدافاً ونوايا اقتصادية بين طياتها، لكن قصة حرب أكتوبر كانت تخفي جوانب متعلقة بطبيعة النظام المالي العالمي الذي تنتهجه حالياً كل الدول، ورغم ذلك جرى على الدوام تعتيم جميع تلك الأحداث والتركيز بدلاً عنها على بطولات مزعومة وهزائم مفترضة، جرت جميعاً على وقع صولات كيسنجر في المنطقة، الذي ظهر كصانع سلام يسعى لإنهاء الحرب.. الحرب التي صنعها بنفسه لصالح أغنياء العالم.

وللمفارقة، فقد حصل ثعلب السياسة الأميركي هنري كيسنجر عام 1973 على جائزة نوبل للسلام، فيما دخل فيصل التاريخ من أوسع أبوابه، باب تحدّي الإرادة الأميركية!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد