بعد أن حدث في بلادنا ما حدث، لم يعد هناك بُد من الذهاب إلى صناديق الانتخابات، وإعلانها سبيلاً وحيداً لإنهاء الحرب ووقف الانقسام، بعد أن استفرغت صناديق الذخيرة وسعها على مدى أعوام أربعة، ذاق فيها الليبيون ما لم يتصوّروا في أشدّ كوابيسهم هلعاً وخوفاً، ليهربوا من صندوق إلى آخر لعلّه يخبّئ لهم هذه المرة ما لم يكشفه في تجارب سابقة، وربّما تكون التجربة هذه المرة من قبيل لعبة "الحظ" التي ليس لديك فيها ما تخسرُه، فأنت في أسوأ الأحوال ستخسرُ شيئاً لم تكن قد كسبته بعد.
وكي لا يُعدّ حديثي إغراقاً في السوداوية وجنوحاً نحو التشاؤم، فقد تكون الانتخابات فرصة استثنائية لإعادة تجديد الشرعية السياسية في ليبيا، وإنتاج نخبة سياسية جديدة، لا سيّما أن هناك موجة تفاؤل تسود الأجواء السياسية الليبية، ولعلّ أبرز مؤشراتها هو ارتفاع معدلات تسجيل الناخبين هذا العام إلى أكثر من مليوني ناخب، بفارق نحو نصف مليون ناخب عن أعداد المسجلين في انتخابات عام 2014.
الأمر لم يقف عند هذا الحد، فلوحة الانتخابات المقبلة يبدو أنها ستُرسم بأكثر من لون سياسي، وستشهد مشاركة واسعة من قِبل أطراف سياسية تغيّبت عن كل المحافل الانتخابية السابقة، فأنصار النظام السابق يبدو أنهم لم يعودوا مؤمنين بأن "التمثيل تدجيل" كما يقول الكتاب الأخضر، وأن ديمقراطية يمكنها أن تحصل من دون "مؤتمرات شعبية".
كذلك الحال بالنسبة لقطاع عريض من أنصار التيار السلفي، الذين ما انفكّوا يحرمون الانتخابات؛ ويعتبرونها رجساً من عمل الشيطان، ها قد عاد بعضهم اليوم ليقول إنها شرٌّ لا بدّ منه، في مسلك قد يُفسّر على أنه انتهازية وبراغماتية سياسية، فيما رآه آخرون من منظور "فقه الواقع" والتماهي مع المعطيات السياسية القائمة.
غير أن الحديث عن الانتخابات في ليبيا لا يمكن أن يجرِيَ إلاّ على طريقة "نعم، ولكن" التي يستخدمها الإنكليز عندما يرغبون في التحفُّظ على ما لا يعجبهم بصورة ناعمة ودبلوماسية، في إشارةً إلى عدم قدرتهم على تمرير ما لا يكون منطقياً من القول.
وما لا يبدو مفهوماً ويستحقّ التحفظ والاستفهام، هو أنّ الانتخابات ستجري دون وجود أي أرضية للتفاهم بين أطراف الصراع حتى اللحظة؛ بل إنّ أحداً لا يضمن قبول الأطراف المتصارعة بنتائج الصندوق، على غرار ما حدث في عام 2014 عندما رفضت أطراف من المؤتمر الوطني تسليم السلطة لمجلس النواب، في وقتٍ رفض فيه مجلس النواب حكم المحكمة العليا الذي قضى بإنهاء وجود مجلس النواب، وهو ما قد يعني أن إرادة الصندوق والقانون قد يرمى بهما في أقرب سلة مهملات، في حال لم تنل مخرجاتهما استحسان أطراف الصراع في البلاد.
ولنفترض تفاؤلاً، أن كل ما نخافُ منه بشأن تعثر العملية الانتخابية من ناحية إجرائية جرى بصورة ورديّة لا مثيل لها، فهناك أسئلة أخرى ينبغي التفكير بشأنها، وهي تلك الأسئلة المتعلقة بجدوى هذه الانتخابات في تحقيق حلم ليبي يتمثّل بإيقاف الحرب وإنهاء الانقسام، فالوضع السياسي بديناميكياته الحالية لن ينتج إلّا الوجوه ذاتها التي قادت "مشروع الحرب".
ولعل أبرز ما يشير إلى ذلك، هو الأسماء الأكثر حظاً وتداولاً، لا سيما في الانتخابات الرئاسية، ما يجعل الانتخابات تبدو حينها أشبه بـ"ضربة قاضية" في حلبة مصارعة، الفائز فيها سيُنهي خصمه بكل وحشية، مزهوّاً بسلاح الشرعية السياسية، أو ربما تكون في أحسن أحوالها تغييراً لوجه الصراع بين مشاريع الحرب، من وجه عسكري إلى آخر سياسي.
ورغم كل هذا، فلا يمكن لعاقل أن يرجّح كفّة آلات الحرب وخطابات الكراهية، على حساب صناديق الانتخابات وإرادة الليبيين أنفسهم، إلا أنّ هناك تدابير عدة ينبغي لها أن تسبق الانتخابات، لضمان نزاهتها وتكافؤ الفرص بين المرشحين، وعدم تكرار وجوه أشعلت الحرب وكرّست الانقسام.
فلا ينبغي أن يذهب الناس أفواجاً للتعبير عن رأيهم السياسي، في بلدٍ تكتظ سجونه بأصحاب الرأي والفكر، ولا يمكن أن يصطفّ الناس في طوابير الناخبين لاختيار من جعلهم يصطفون في طوابير الخبز والغاز والوقود، فالانتخابات في نظري دون تدابير لتعزيز الثقة لن تكون إلّا شبيهة بحفل سخط جماعي، دعايته صاخبة؛ ولكن نتائجه جدُّ متواضعة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.