فاقت زيارة الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو لمنطقة بونتلاند "أرض البخور" الواقعة بشمال شرقي الصومال توقّعات الجميع محلياً وعالمياً، بمن فيهم المجموعة المحيطة بالقصر الرئاسي الصومالي "فيلا صوماليا"؛ ذلك أن زيارته تزامنت في ظرف شديد التعقيد؛ نظراً للمتغيرات السياسية التي تشهدها الساحة الصومالية بعد بروز معارضة قوية داخلياً، وتأثير الأزمة الخليجية على منطقة القرن الإفريقي برمّتها، وما رافق تلك الأزمة من تنافر في المواقف تركت أثرها على الصومال بصورة جلية.
كما حظيت زيارة الرئيس الصومالي زخماً منقطع النظير، ومثّلت -بالنسبة له- فرصة سياسية بطبقٍ من ذهب، وبعثت برسائل سياسية للخارج والداخل معاً، سيعتمد تأثير تلك الرسائل في مدى توظيفه وتطويع مغزاها لصالحه، وحشد التأييد إلى جانبه، وتوفير هامش للمشاركة السياسية لبقية القوى الناشطة فوق المسرح السياسي الصومالي، وامتصاص غضب المعارضة؛ لضمان بقائه في الفترة المقبلة.
بيعة سياسية
أقل ما يُوصف زيارة الرئيس الصومالي إلى منطقة بونتلاند بأنها "بيعة سياسية" تضمن له استمرارية الحكم في ظل تأييد من قاعدة شعبية واسعة، فحجم الحشود التي استقبلته في معظم مدن بونتلاند تحرّكت بصورة عفوية؛ بعيداً عن تأثير أي جهة سياسية، ما يجعله قائداً يحظى بثقة الجماهير، لم تتأثر سمعته بالزوابع السياسية المُثارة ضدّه كقضية "قلب طغح" وغيرها، وإن كنتُ لا أتفق مع الحكومة الفيدرالية في تسليم مواطنين صوماليين لدولٍ أجنبية.
وبعثت زيارته أيضاً برسالة سياسية للقوى المعارضة مفادها: أن ضجيجهم لم يصل بعد إلى الجماهير الصومالية، فالشعب الصومالي يتوقُ إلى قائد شعبي تلتّفُ حوله الجماهير، إذا ما توافرت لديه بعض الخصال القيادية، وبالطبع تجتمع لدى فرماجو بعض تلك الخِصال.. لكن تصرفات طاقمه السياسي قد تفقده الشعبية، وتهزّ صورته أمام الرأي العام الصومالي؛ إذا لم يتدارك سريعاً، ويُعالج الخلل، فالصومال يسع الجميع، ولا داعي – بنظري- إلى مجموعة إقصائية تغلق الباب أمام أي مبادرة وطنية، وتخصم من رصيد هذا القائد المحبوب.
أضف إلى الحفاوة التي اُستقبل بها في كل من: غروي وقرضو وعرمو وواعية وبوصاصو وجالكعيو، وتقديم الهدايا الشعبية الثمينة غير الرسمية له، كلها رسائل سياسية الهدف منها: إبراز التعاطف الشعبي له، وتمتين أرضيته السياسية لجعلها صلبة عصية على التهدّم السريع، وإظهار أن قوته تكمن في مدى تمسكه بمبدأ فيدرالية الحكم، واحترام رأي أغلبية قبيلة "الدارود" التي ينحدر منها الرئيس الحالي، والتي تدافع عن مبدأ فيدرالية الحكم الصومالي كمخرج وحيد للأزمة الصومالية المستعصية.
الأزمة الخليجية
تظل الأزمة الخليجية العنوان الأبرز لمجمل الخلافات بين حكومة المركز وعلاقاتها مع الأقاليم الصومالية المختلفة، فالمسألة لم تُحسم بعد من قبل الدول الخليجية نفسها عداك عن الصومال، وأصبحت الصومال ساحةً خارجية للدول الخليجية تمارس فيها عراكاً سياسياً واقتصادياً تدفع الصومال ثمنها، إذ اختارت الأقاليم موقفاً مغايراً عما اتخذته الحكومة الاتحادية، ومن مصلحة الأقاليم اختيار ما يناسبها من مواقف؛ مراعاةً لمصالحها الخاصة.
لكن موقف حكومة الصومال المحايد ظاهرياً يحمل في طياته تأييداً لدولة قطر في أزمتها مع أشقائها الخليجيين، لم يعجب هذا الموقف المحايد الأقاليم الصومالية، وعلى أثرها أسّست لنفسها كياناً يضمهم، ويترأس هذا التحالف رئيس بونتلاند، الإقليم الذي استضاف الرئيس فرماجو بصورة فاقت كل التوقعات، وقلبت الموازين، فالزيارة التي كان مخططاً لها أن تكون بروتوكولية محضة، تحوّلت بين عشية وضحاها إلى تظاهرة شعبية مليونية في كل الشوارع والبلدات التي زارها الرئيس فرماجو ضمن جولته الأخيرة، والسبب يرجع لشخصية الرئيس التوافقية، وخطاباته العاطفية التي تُعبر عن نبض الشارع الصومالي بلغة بسيطة خالية من غموض السياسيين، ما أكسبه حب الشعب.
وكانت أبرز رسالة بعث بها الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو أثناء زيارته الأخيرة في خلو جدوله من زيارة المرافق الحيوية التي تشيّدها دولة الإمارات العربية المتحدة في منطقة بونتلاند كميناء بوصاصو وغيرها، ما يظهر بجلاء أن الأزمة الخليجية ألقت بظلالها القاتمة على الصومال!
مجموعة فيلا صوماليا
في الصومال هناك مجموعات تنتهي صلاحية مشروعهم السياسي بانتهاء فترة الرئيس المنتخب، وتعلب -في الغالب- كلوبي سياسي نفعي يجمعهم دوماً خيط الانتهازية السياسية، ويظهر دورهم بعد انتخاب الرئيس؛ حيث تجتمع في يدهم خيوط القرار والمال، ويديرون دفة الحكم وفق ما يتلاءم مع رغباتهم، ومجموعة فرماجو في "فيلا صوماليا" حاولت أكثر من مرة تهميش دور وحجم بونتلاند، وتصادمت في كثير من الأحيان مع صانع القرار البونتلاندي بهدف تضييق الخناق على الإقليم، وتحجيم دوره السياسي لشيءٍ ما في نفس يعقوب.
ومثلت هذه الزيارة -بالنسبة لهم- مفاجأة من العيار الثقيل وصدمة للكثيرين من صانعي القرار الصومالي، فمن ناحية، أظهرت هذه الزيارة حجم الإقليم سياسياً واقتصادياً، ودوره الريادي في المصالحة الصومالية، وكرم أهل المنطقة الحاتمي، ومن ناحية أخرى، تحاول المجموعة المنتفعة في "فيلا صوماليا" استغلال هذا التعاطف الشعبي الذي حظي به الرئيس من الإسراع في صياغة مشروع حزبهم السياسي -الذي هو قيد الإنشاء حالياً- لاكتساح الانتخابات المزمعة عقدها في عام 2020، وهنا تكمن خطورة مشروعهم السياسي.
حجم بونتلاند
من أكثر الرسائل السياسية التي بعثتها زيارة الرئيس الصومالي إلى مناطق بونتلاند هي حجم هذا الإقليم سياسياً وأمنياً، ونضوج أهله، وعدد المشاريع التي وضع الرئيس الصومالي حجر أساسها، وهي مرافق حيوية مهمة كمطار غروي ومشاريع الطرق الكثيرة، فالأمن هو أساس مقومات الدولة، وهي الركيزة الضرورية لأي تقدم وتطور، بدأ الرئيس زيارته من غروي حاضرة الإقليم، وزار معظم بلداتها مثل بوصاصو المدينة التجارية في تلاحم عجيب للهرم والقاعدة، فالتحدي الأمني لم يكن وارداً أثناء زيارته للإقليم، قضى فيها أياماً دون حدوث أي من الخروقات الأمنية، ما يظهر بوضوح أن بونتلاند مستقرة أمنياً، وأن كل محاولات تشويهها اصطدمت بصخرة الواقع، وظهرت نتائج الزيارة عكس المتوقع.
وأخيراً، تنضاف هذه الزيارة وطريقة إدارتها إلى رصيد الرئيس الحالي لإقليم بونتلاند عبد الولي محمد علي غاس، فهي زيارة عكست عن معدنه الشخصي، حوّل مسارها من بروتوكولية رسمية إلى شعبية تاريخية، فالحصان والسيف والناقة وقطعة الأرض التي أُهديت للرئيس الصومالي سيظل صداها يتردد، وهي بالنسبة له رحلة استكشاف لجذوره في بلدٍ يتم فيه تقاسم السلطة عبر التوازنات القبلية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.