ترقد الطيور في أعشاشها ليعيش صغارها، ويرقد الحكام على عروشهم لتموت شعوبهم، فعندما يغفو الحاكم على عرشه تموت الأمة، ويموت السلام، وتُسرق الخيرات، وتُباد المقدسات، وتُنتهك الحرمات، وتهدم المؤسسات، وتتيتَّم الأطفال، وتسيل الدماء كالأنهار؛ فكرسي الحكم أهم من عيش المحكومين، أن يكون للحاكم كرسي على طاولة المؤامرات والاجتماعات وعقد الصفقات والمتاجرة (بدماء الشعب) أهم من الحفاظ على مساحة الأرض حرة ومستقلة.
فالعالم اليوم بأكمله يشهد تحديات أمنية خطيرة في ظل التوجهات العالمية الكبرى الساعية للهيمنة الاقتصادية بالدرجة الأولى على كل مقدرات دول العالم عموماً والعرب خصوصاً، فحكام العرب أصبحوا كالدب القطبي الذي يدخل في سباته الشتوي ويستيقظ حين يشعر بالجوع، وهم العرب يدخلون في سباتهم الأبدي وخنوعهم ورقودهم وتخاذل بعضهم عن بعض، ويستيقظون حين يدعون لعقد مؤامرات الغرب عليهم، ويُطلب منهم توقيع اتفاقيات البيع والشراء.
فلا عجب منهم؛ فالذين رموا يوسف (عليه السلام) في قاع البئر هم إخوته، وها هم العرب يرمون بالقدس الشريف، مسرى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأولى القبلتين، بأحضان اليهود. فإعلان ترامب القدس عاصمةً لإسرائيل كان متوقعاً وردود فعل حكام العرب أيضاً كانت متوقعة، وإنما دول الغرب وصفتهم بأنهم "أمة ضعيفة لم تعد قادرة إلا على التنديد والشجب بأصوات مبحوحة"، فالحكام مشغولون بالتواطؤ لحماية عروشهم على حساب عيش شعوبهم، فلم يعتادوا فتح أفواههم إلا في عيادات الأسنان وتناول الطعام.
ترامب يضع الحلقة الأخيرة من مسلسل الاحتلال وإنهاء المقاومة، ستقوم كثير من المظاهرات والتنديدات، ولكنها مجرد حروف تُكتب وأصوات مبحوحة لن تجد من يسمعها، فالحرية والكرامة والحفاظ على الأرض والعرض ليست بكلام يقال ويُنقل عبر وسائل الإعلام، فالضوء الأخضر أُعطي لترامب حين قال إمام الحرم المكي السديس إن "خادم الحرمين الملك سليمان وترامب يقودان الأمة إلى مرفئ السلام"!
ما هذا السلام الذي سيعيشه أصحاب الحق مع أصحاب الباطل، أصحاب الأرض مع محتل الأرض؟! فالأمة العربية بخذلان القدس، ترقد على فراش الموت نازفة الكرامة، مسلوبة، تنتظر من يعيد البسمة لشفاه ازرقَّت من موت ضمير حكام العرب.
المسؤولية التاريخية تتحملها دول العهر، السعودية والإمارات، التي تحارب كل من يساند القضية الفلسطينية وتقف لجانب الكيان الصهيوني. ألا يخجل العرب من أنفسهم عند ذكر اسم صلاح الدين الأيوبي، الذي أقسم ألا يبتسم حتى تعود فلسطين للمسلمين، وعبد الرحمن الغافقي الذي وصل بجيش المسلمين إلى وسط باريس، ومعاوية بن أبي سفيان الذي غزا الروم لأول مرة في التاريخ بالسفن البحرية، والمعتصم الذي فتح عمورية أكبر معقل للبيزنطيين؟!
أما حكام العرب اليوم، فالرد مختلف تماماً، فعندما غضبوا من قرار ترامب أرسلوا خطاب استنكار للأمم المتحدة!
الدفاع عن القضية والوصول للحرية لا يكونان عبر قنوات التواصل الاجتماعي وصفحات الفيسبوك وتغريدات تويتر، الكلام يجب أن ترافقه ردود فعل ملموسة وليست مقروءة.
ومن يدّعي المقاومة؟!
حسن نصر الله، عبر تغريدة تويتر "القدس عاصمة فلسطين، فإذا ذهبت سوريا ذهبت فلسطين"، يدعو لانتفاضة عبر تويتر، ويطلب المؤازرات التويترية، ويدعو للمشاركة للتعبير عن الغضب عبر تغريدة من كل شخص (الذي يقتل في سوريا الأطفال سيقتل بتغريدة عبر تويتر اليهود!). كما ندد الأردن، وأكد وقوفه وراء الملك عبد الله الثاني باعتبار القضية الفلسطينية هي المركزية والأساسية ولها الأولوية على طاولة المؤتمرات الدولية، ووصف القرار بأنه "أحادي" وسيضع العالم في دائرة العنف وعدم الاستقرار باعتباره قراراً يمس مشاعر العرب وعروبتهم.
أردوغان يحذر ترامب "القدس خط أحمر للمسلمين"، ودعا لإقامة تحالف عربي-إسلامي جديد على أساس مناهضة المشروع (الصهيو-أميركي) الساعي لتصفية القضية الفلسطينية، ووصف أردوغان القرار بأنه "عدواني" بحق القدس هوية وتاريخياً وجغرافياً، ودعا لتقديم شكوى لمجلس الأمن الدولي وقطع جميع العلاقات إن لم تتراجع أميركا عن القرار والتفاهم للوصول لقرار عادل وشامل.
الرد الأقوى على القرار الأميركي تصدَّره رئيس كوريا الشمالية، حيث قال: "لا توجد دولة اسمها إسرائيل حتى تصبح القدس عاصمةً لها"، كلام مهين لترامب وبالوقت نفسه لتخاذل العرب عن نصرة القدس.
وكما قال الكاتب محمد الماغوط
كل طبخة سياسية في المنطقة أميركا من تُعدّها، وروسيا توقد تحتها، وأوروبا من تبردها، وإسرائيل تأكلها، والعرب يغسلون الصحون".
مستشار ترامب للأمن القومي يتحدث عن العرب ويصفهم بأنهم "سرطان خبيث في جسد مليار وسبعمائة مليون شخص على كوكب الأرض، ويجب استئصاله كما فعلنا بالشعوب النازية والشيوعية". ماذا يريد حكام العرب أوضح من هذا الكلام ليعلموا كُره الغرب للعرب ولإسلامهم؟ فهي حرب على الإسلام قبل أن تكون حرب الخيرات والثروات العربية، فالقرار الأميركي دون الرجوع للدول العربية يدل على أن ترامب متأكد من خنوع العرب ورضوخهم لقراراته..
لماذا تبكون على القدس اليوم ومنذ 99 سنة وهي تعاني جمودكم وتخاذلكم؟! فلماذا تبكون؟! فإن كنتم صادقين في موقفكم فاتخذوا قراركم وأعدّوا العدة؛ فالقدس ليست بحاجة لحروفكم وتنديداتكم ودموعكم، اتحدوا وأوقفوا القتال الدائر في سوريا والعراق واليمن والقدس.
لا توجد شواهد أيكولوجية تدل على وجود مملكة إسرائيلية كانت عاصمتها القدس، فلا يمكن للمرء أن يتكلم على مملكة من دون سكان، ولا يمكنه أن يتكلم عن عاصمة من دون بلد.
منذ عام 1948 والعرب يفكرون في تحرير فلسطين وما زالت الفكرة قائمة حتى الآن 2017! في سؤال أحد الصحفيين لوزيرة إسرائيلية سابقة عن شعورها ليلةَ أحرق الصهاينة القدس عام 1969، فقالت: "تلك أصعب ليلة قضيتها في حياتي، لم أنم يومها، وانتظرت بخوف شديدٍ طلوع الفجر، ورد فعل العرب. وفي الصباح وعندما طلع الفجر، لم يحدث أي رد فعل عربي، علمت أنها أمة ما زالت نائمة فاتركوها نائمة". فالرضوخ والخنوع قديمان وليسا بجديدَين لا للعرب ولا عند الغرب.
من باع الجولان سيبيع القدس؛ فالمناصب والكراسي الرئاسية أهم من حرية أرض وجماجم شعب، كانت الجولان جزءاً من الأراضي السورية، ولكن دول الغرب تآمرت مع دول الخيانة، فقامت إسرائيل والأمم المتحدة والنظام (حافظ الأسد) على تزييف تفاصيله وطرد سكانه (140 ألف عربي)، والإبقاء على فئة الدرزية سكاناً لها، ومنعت السوريين من حق الزيارة إلا بتصريح رسمي من المخابرات الإسرائيلية!
وجاء دور لواء إسكندرون، الذي تم سلخه عن سوريا الأم في 29 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1939، اليوم الأسود بتاريخ العرب، حيث أصبح اللواء جزءاً من الأراضي التركية. والآن وفي سوريا ومن جديد، تتدخل تركيا مرتين عسكرياً؛ الأولى عندما أرسلت رتلاً عسكرياً لنقل ضريح سليمان شاه جد العثمانيين. والثانية بعد إسقاط الطائرة الروسية التي لحقها اعتذار تركي، ومن بعدها تحالف روسي-تركي ضد الثورة بحجة قتال داعش، فتم بعدها تسليم حلب للنظام.
والآن، يتفاوض الروس والترك حول مناطق خفض التصعيد والمناطق الآمنة، وربما تكون المناطق المحررة مع الأيام المقبلة تابعة جغرافياً لتركيا كحال لواء إسكندرون، وإما أن تكون عفرين، المقطونة سكنياً بالأكراد الذين ساندوا النظام بقتل السوريين، فقوات سوريا الديمقراطية وغيرها من الألقاب تضم مجموعات عربية ومسيحية وآشورية، بدعم أميركي، بحجة قتال تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي جعل العلاقة في توتر مع الأتراك، وأصبح لدى الأميركي خياران؛ أما إيقاف الدعم العسكري والسياسي للوحدات الكردية، وأما علاقتها مع تركيا التي اكتسبت مزيداً من النفوذ بتعاملها مع روسيا.
نحن لا نحارب الإرهاب نحن من يصنعه (أميركا)
عندما تريد أميركا بسط سيطرتها على دولة عربية؛ فإما أن تتفق مع الدول وتقوم بعملية الشراء والبيع، وإما أن تطلق عليها اسم الإرهاب، وهذا يكفي؛ ففي حربها بأفغانستان كان هدفها إقامة نظام جديد تفرضه واشنطن، يمكن من خلاله تأمين وجود عسكري أميركي دائم يهدد من جهة الجناح الجنوبي لروسيا، والجناح الغربي للصين، والجناح الشرقي لإيران، والضغط على باكستان لتبنِّي مواقف غير متشددة لقضية كشمير، وإزالة البرنامج النووي الباكستاني، والتحكم في بحر قزوين التي تعج بمشاريع النفط وخطوط أنابيب النقل، والقضاء على مزارع الأفيون في أفغانستان.
وبعدها، تحولت من متاجرة المخدرات إلى السيطرة على خيرات وثروات العراق، فنفط العراق ضروري لتمويل حروبها ضد العرب وبأموال العرب أنفسهم، ونجحت في ذلك، وبسطت سيطرتها على العراق، وزرعت الطائفية بين الشعب.
فسياسة أميركا تسير على حكام العرب بمقولة بوش "إما أن تكون معي وإما ضدي".. تحالفت روسيا مع أميركا على الدول العربية، والحكامُ في نومة ولن يستطيعوا فعل شيء سوى الاستنكار والخنوع والانبطاح، رغم التاريخ العريق للعرب الذي ورثوه عن أجدادهم، ولكن حكام اليوم ماذا سيورثون أحفادهم؟!
أغلب طائرات العالم تجول في سماء سوريا وكلٌّ حسب غايته، لتشارك إسرائيل في قصف مواقع عسكرية بسوريا تابعة إيران، والرد المتوقع دائماً من الأسد "نحتفظ بحق الرد"! نحن السوريين الذين خرجنا ضد النظام (الأسد) لسنا ضد الضربات الإسرائيلية على مواقع النظام والإيرانيين وحزب اللات، ولكننا نأسف لكونها تخترق الأجواء السورية وتمس وحدة الأراضي السورية (اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين).
صحيفة هآرتس
فلاديمير وبوتين اتفقا على تنسيق الغارات الجوية في سوريا؛ لمنع حصول صدام بين الطائرات الروسية والإسرائيلية أو منع إسقاط طائرة إسرائيلية بصواريخ مضادة للطيران.
ومن تصريح لضابط كبير في سلاح الجو الإسرائيلي، العميد طل كلمان، بقوله إن "منظومات الأسلحة التي تم وضعها الآن في الشرق الأوسط، ليست موجهة ضد دولة إسرائيل؛ لأننا ندرك نوايا مشغلي هذه المنظومات، ونحن نحلّق بحضورهم". ومنذ عام 2001 وإسرائيل تخترق الأجواء وتقصف المواقع في سوريا بمعدل مرتين أو ثلاث مرات في كل عام تقريباً، وأصبح لديها اليقين بصمت النظام السوري باحتفاظه بحق الرد، كما قال مقدم برنامج "الاتجاه المعاكس" فيصل القاسم: لماذا أصبح العرب مهزلة المهازل وأضحوكة الأمم؟ أليست الأنظمة الحاكمة فاسدة من رأسها حتى أخمص قدميها؟
فالنظام الفاسد لا يستطيع العيش في مجتمع صالح، فلا بد من إفساد المجتمع؛ كي يتمكن النظام من العيش. فعندما يكون الحاكم مباحاً سيصبح الوطن مباحاً أرضاً وجواً، حيث استباحت الطائرات الإسرائيلية سماء سوريا وقصفت مواقع عسكرية لإيران، فقصفت مستودعات المهين بحمص، ومواقع عسكرية في جمرايا بدمشق، ومعامل الدفاع في حلب، واللواء 105 و106 الحرس الجمهوري، وقُتل نحو 45 قتيلاً، ومركز استشعار إيرانياً بعرطوز، وقاعدة عسكرية بالكسوة.
والرد الذي لم يُحفظ غيره "نحتفظ بحق الرد"، واتهام إسرائيليين بالتحالف مع الإرهابيين، ومع ذلك تقدمت منظمات يهودية بطلب لبوتين بالسماح بالدخول لسوريا لترميم الأضرحة والكنائس اليهودية! هل هذه طريقة جديدة لاحتلال جديد؟! اليهود يطالبون بترميم مقدساتهم، والعرب ينظرون كيف تُهدَّم المساجد وتُمزَّق مصاحفهم ولا يفقهون لآيات القرآن (سورتي الأنفال والتوبة)!
الأخوة بالدم تحت مسميات مختلفة تشارك القتل، فجيش التحرير الفلسطيني يقاتل إلى جانب حزب الله في قصف وحصار وتهجير الزبداني ومضايا والقدم ومخيم اليرموك ودرعا وحمص، بينما الاحتلال الصهيوني يقصف ويقتل المقدسيين ويسلب الأقصى الشريف.
(يناصرون القدس بالكلام ويقتلون السوريين بالسلاح)
وتعود الكرة مرة أخرى لبوتين، الذي قام بزيارة لسوريا واستقبله الأسد في "حميميم" المحتلة من الروس، حيث قام ضابط روسي بإمساك الأسد من يده؛ ليمنعه من المشي بجانب بوتين ويتركه وراءه كالذَّنَب، ويتصدر بوتين بالتصوير والأسد خلفه الخادم المطيع.
الأهم من هذا، هل بوتين صادقٌ هذه المرة في سحب قواته من سوريا، وإعلان أنه قد انتهى دور روسيا بالقتل؟ وما صحة الخبر الذي أصبح على صفحات الفيسبوك وتجهيز فاروق الشرع للتسلّم واقتراب أيام الأسد من الانتهاء.
كثرت المصالح وتعددت الوسائل وركد الحكام، ولكن الشعب لن ينسى من قتله وهجَّره، فالنار السورية لن تُخمد حتى تحرق عرش كل خائن، وسيذكر التاريخ يوماً أن الشعب السوري ثار ذات يوم وأُعلنت عليه الحرب مرة واحدة من أقوى دول العالم العربية والغربية، فقصفته بأحدث الأسلحة، وأوقدت النار تحت السماء، وأحرقوا مِن تحت قدميه ناراً، ولكنها عجزت عن هزيمة الثورة وإرادة الشعب.. فالقدس عروس الأمة العربية، وسوريا جنة الله على الأرض.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.