سياساتُ الهوية وما بعدها

سياسة الهوية هي ببساطة اسم آخر للنضال ضد العنصرية أو قمع المرأة أو رهاب الآخر، ومن الناحية العملية، لا تؤدي سياسات الهوية المعاصرة إلا القليل لتحدي جذور القمع.

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/09 الساعة 04:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/09 الساعة 04:32 بتوقيت غرينتش

بدون سياسة الهوية لا يمكن أن يكون هناك دفاع عن حقوق المرأة أو حقوق الأقليات؛ لذا كان مهماً تفعيل اثنين من الدفاعات المعاصرة الأكثر شيوعاً لسياسات الهوية، كما أصبح النقد لسياسة الهوية أكثر تطوراً وكثافة، والهويات، بطبيعة الحال، ذات أهمية كبيرة؛ فهي تعطينا الشعور بأنفسنا، وأسسنا في العالم وعلاقاتنا مع الآخرين، وفي الوقت نفسه، السياسة هي وسيلة، أو ينبغي أن تكون وسيلة، وإن أخَذنا وراء الشعور الضيق للهوية، يُعطى لكل واحد منا نوع من التجارب الشخصية، فعندما كنت في سن المراهقة، كنت قد رسمتُ السياسة بمنظور تجربتي طائفياً، ولكن إذا كانت الطائفية هي التي وجّهتني إلى السياسة، فالسياسة جعلتني أرى حدوداً ضيقة للطائفة.

ومن خلال السياسة، عرفتُ أفكار التنوير، والمفاهيم الإنسانية المشتركة والحقوق العالمية. ومن خلال السياسة أيضاً، اكتشفتُ كتابات ماركس وجون ميل، بالدوين وأرندت، جيمس وفانون.

في المقام الأول، اكتشفت أنني يمكن أن أجد المزيد من التضامن مع أولئك الذين يحمِلون ثقافة مختلفة، وليس الذين تقاسموا القيم، الذي شاركت فيه عرقيات أو ثقافات، ولكن ليس بذات الرؤية السياسية، وبعبارة أخرى، فإن السياسة لم تعزز هويتي، ولكنها ساعدتني على تجاوزها.

لفهم خصائص سياسة الهوية المعاصرة، نحن بحاجة للعودة إلى أصول السياسة الحديثة، في نهاية القرن الثامن عشر تم تأسيس "التمييز" بين اليسار واليمين، بالطبع، لم تكن سياسة الهوية تُسمى بهذا، كما أنها لم تكن مرتبطة باليسار أو بالصراعات ضد القمع.

في الواقع، العكس تماماً.. أصول سياسة الهوية في أواخر القرن الثامن عشر تكمن في الحقوق الرجعية، السياسة الأصلية للهوية هي العنصرية والقومية، وتطورت من التنوير المُضاد، وقد عارض هؤلاء النقاد الأوائل في عصر التنوير فكرة "القيم الإنسانية العالمية" من خلال التأكيد على القيم الخاصة المُجسدة في هويات الجماعات.

"لا يوجد شيء مثل الرجل" كتب الفرنسي الرجعي جوزيف دي ميستر في جدله ضد مفهوم حقوق الإنسان؛ حيث اعتمد مناهضو التنوير نظرة خاصة، قام الإصلاحيون بتحدي عدم المساواة والاضطهاد باسم الحقوق العالمية، وأصروا على أن الحقوق المتساوية تنتمي إلى الجميع، وأن هناك مجموعة من القيم التي يزدهر فيها جميع البشر.

في الحقيقة غذت الحركات الراديكالية الكبرى التي شكلت العالم الحديث من الثورة الهايتية التي كانت في غاية الأهمية في 1791، إلى الكفاح المناهض للاستعمار وللإمبريالية في القرن العشرين إلى حركة "الاقتراع للمرأة".

تغيّرت العلاقة بين اليسار واليمين والهوية في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، في أعقاب جرائم النازية والمحرقة، أصبحت العنصرية العلنية أقل قبولاً، وتلاشت السياسات القديمة للهوية، ولكن ظهر شكل جديد -سياسة الهوية كسلاح- لمواجهة العنصرية والاضطهاد، وكوسيلة لتحدّي عدم المساواة.

ولكن مع فقدان الحركات الاجتماعية القديمة والنضالات الراديكالية النفوذ، أصبح الاعتراف بالهوية هدفاً في حد ذاته.

على أساس الصفات الإنسانية المشتركة، كما قالت النسوية البريطانية سونيا كروكس: "لا تُحترم على الرغم من الاختلافات، بدلاً من ذلك، ما يطالب به هو احترام الذات على أنها مختلفة".

لقد تحول معنى التضامن، من الناحية السياسية، إلى التعبير عن الشعور بالانتماء إلى جماعة في شكلين واسعين: من خلال سياسات الهوية ومن خلال سياسات التضامن.

وتشدد الأولى على الارتباط بالهويات المشتركة، مثل الدين أو الأمة أو الجنس أو الثقافة.

والأخيرة توجه الناس إلى جماعة، لتحقيق هدف سياسي أو اجتماعي.

وعندما تنقسم سياسات الهوية، تجد سياسات التضامن غرضاً جماعياً عبر شقوق الأمة أو الدين.

ولكن سياسات التضامن تراجعت على مدى العقدين الماضيين مع تراجع الحركات الراديكالية، وبالنسبة للكثيرين اليوم، فإن الشكل الوحيد للسياسة الجماعية الذي يبدو مُمكناً هو المُحافظة على جذور هوية.

ولذلك، أصبح "التضامن" محدداً بصورة متزايدة ليس من الناحية السياسية -كعمل جماعي سعياً وراء بعض المثل السياسية- ولكن مع تقلص المجال السياسي، تضاءلت آليات التغيير؛ لذلك فإن الإجابة على السؤال "في أي نوع من المجتمع أريد أن أعيش؟" أصبحت أقل صور القيم التي يرغب الناس بالنضال من أجل إقامتها؛ وجواب "من نحن؟" أصبح تعريفاً يريدُ إعادة خلق التاريخ والتراث الذي يفترض أنهم ينتمون إليه.

وتعرف الأطر التي يمكننا من خلالها فهم العالم بأنها "ليبرالية" أو "متحفظة" أو "اشتراكية" أكثر من كونها "مسلمة" أو "عربية" أو "غربية".

لقد بدا أن الأمر يبدو وكأن جميع السياسات لا يمكن أن تكون إلا سياسة للهوية؛ لأن البديل الذي شكّل قلب التحولات الاجتماعية الكبيرة التقدمية على مدى القرنين الماضيين قد تآكل بشدة.

وبما أن وجهة النظر العالمية قد تلاشت، فإن الكثير من الحركات الاجتماعية التي تُجسد وجهة النظر هذه قد تفككت، وبالتالي أصبح الفضاء الاجتماعي الذي عصف به ذلك التفكك مليئاً بسياسات الهوية.

سياسة الهوية هي ببساطة اسم آخر للنضال ضد العنصرية أو قمع المرأة أو رهاب الآخر، ومن الناحية العملية، لا تؤدي سياسات الهوية المعاصرة إلا القليل لتحدي جذور القمع.

ما يُفعل هو تمكين بعض الناس ضمن تلك الهويات المفترضة لضبط حدود "مجتمعاتهم" من خلال تنصيب أنفسهم كحراس.

وقد سمح لنفسه بأصوات أصيلة أو قادة مجتمع محليين لترسيخ قوتهم.

ولما أصبح التضامن يعاد تعريفه من حيث الإثنية أو الثقافة، فإن مَن يطالبون بأن يكونوا أصوات تلك الإثنيات أو الثقافات يُمنحون امتيازات جديدة.

وفي الوقت نفسه، وكما تكشف الحركات الجديدة المناهضة للمهاجرين والمسلمين، في أوربا وأميركا، فإن الأشكال الرجعية لسياسات الهوية قد عادت.

إحدى عواقب تعميم سياسة الهوية هي أن العنصرية قد أُعيدت صياغتها كسياسة هوية في برامج انتخابية!

وسياسة الهوية المعاصرة أقل من أن تواجه الظلم، وأكثر من إعادة تسمية العلامة التجارية؛ لذلك، فقط من خلال تحدي سياسة الهوية يمكن أن نتحدى حقاً عدم المساواة والظلم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد