أعني بتأطير الإسلام، أن تقوم جماعة من المسلمين بوضع ما فهموه من الإسلام، في إطار محدد بحدود، أو في وحدة مقفلة، ويسمونه الإسلام الصحيح، فيصير أشبه بالدائرة المغلقة، ومَن أراد مِن الناس أن يدخل الإسلام فعليه أن يلج داخل هذه الدائرة، ليضمن لنفسه سلامة الدنيا والآخرة، وكل من هو خارج هذه الدائرة فهو ليس من المسلمين، ولا علاقة له بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. وفي أحسن الأحوال هو فاسق أو مبتدع.
فهل هذه هي صورة الإسلام الحقيقية؟ هل نزل الإسلام على الأرض منفصلاً عن الناس والحضارة والحياة، وطالب الناس بالدخول فيه مولّين ظهورهم لحياتهم التي كانوا عليها من قبل؟… إن هذا السؤال ضروري، والإجابة عنه مهمة، لاسيما في ظل الأجواء البائسة التي تعيشها أمة الإسلام.
نطالع القرآن الكريم فنقرأ قولَه تعالى في سورة الروم ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفَاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ {الآية 30}.
جاء في تفسير الطبري: قال ابن زيد في قوله: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) أي الإسلام، منذ خلقهم الله من آدم جميعاً يقرّون بذلك، وقرأ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) قال: فهذا قول الله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ).
نطالع القرآن الكريم فنقرأ قوله تعالى في سورة الشمس ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ {الآيات 7 – 10}.
يقول الطبري في تفسير هذه الآيات: بيّن لها (أي النفس) ما ينبغي لها أن تأتي أو تذر من خير أو شر، أو طاعة أو معصية.
وجاء في تفسير ابن كثير: أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة، كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ). فبيَّن لها الخير والشر، وألهمها الخير والشر، وجعل فيها فجورها وتقواها.
وليست الأدلة متوفرة في كتاب الله فحسب، بل هي في السنة النبوية أوفر، فقد ورد في الصحيحين؛ البخاري ومسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء).
وفي صحيح مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم).
هذه هي أدلة الكتاب والسنة، تصرخ في وجه المتطرفين أن أفيقوا، فإن في نفس كل إنسان إسلاماً، فكل إنسان خلقه الله، مسلم أو يهودي أو نصراني، بوذي أو زرادشتي أو هندوسي، ديانته سماوية أو بشرية… كل أولئك وهؤلاء خلقوا -يوم أن خلق الله آدم- على فطرة الإسلام، تلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كل أولئك وهؤلاء في نفوسهم الفجور والتقوى، الضلال والهدى، كل أولئك وهؤلاء جميعاً في قلوبهم دليل التوحيد، فمنهم من زكّى نفسه فأفلح، ومنهم من دساها فخاب.
فإن كانت هذه هي أدلة الكتاب والسنة فيمن لم يدن بدين الإسلام، فكيف بمن وحّد الله ونطق الشهادتين وأعلن استسلامه لله.
وقد يقول قائل، فما مهمة الأنبياء إذن، إن كان في نفس كل إنسان إسلام يدله على التوحيد وعلى السلوك الرشيد؟ نقول: إن مهمة الأنبياء، ومن بعدهم الدعاة والمصلحون، أن يستخرجوا معاني التقوى في النفس الإنسانية، لتستعلي على معاني الفجور… أن يستخرجوا دلائل التوحيد في النفس الإنسانية لتستعلي على دلائل الشرك والإلحاد… إن مهمة الأنبياء أن يدعوا الناس ليتفكروا ويتدبروا ويقرأوا التاريخ ويستخلصوا العبرَ منه والسنن التي تجري في الكون على نظام وثبات… فإن ظهر ذلك في سلوك الناس بأن تعايشوا وتعاونوا على عمران الأرض، فقد أدى الأنبياء رسالتهم… وإن لم يُجبهم أحد، فما على الرسل إلا البلاغ.
لم تكن مهمة النبيين يوماً أن يصنعوا من الدين حاجزاً بينهم وبين المدعوين، يطالبونهم بتجاوزه إليهم حتى يسلموا في دينهم ودنياهم، وإنما ذهبوا هم إلى الناس معلمين ومرشدين وناصحين.
عاش نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم مع أهل الكتاب، لم يقاتل منهم أحداً إلا مَن خان عهده معه، وأخلَّ بنظام الدولة، وأفسد سلامة المجتمع، عاش ومعه المنافقون لم يقتل منهم واحداً وهو أعلم بهم وبمناوأتهم للإسلام، ولكنه كان يقول: (أعوذ بالله أن يقول الناس إن محمداً يقتل أصحابه).
عاش المسلمون يعبدون الله، فلا ينكر أحدٌ على أحد عبادته، ولا يزايد أحد على أحد في قربه من الله، وإنما يتهم كل امرئ نفسه، ويظن فيها أنها أبعد الأنفس عن الالتزام بتعاليم الإسلام، وأن كل الناس أفضل منه، فعاشوا سالمين معمرين غير مفسدين، وانتشر الإسلام في أرجاء الأرض، وفتح الله على أيديهم أشد المغاليق.
وظلَّ الأمرُ هكذا في بلاد المسلمين السالمين… إلى أن خرجت طائفة قالت قولتها المشؤومة: نحن على الإسلام الصحيح، فتابعتها طوائف أخرى، كلٌّ يدَّعي ذاك المدَّعَى، ويصنع لنفسه دائرة سوداء، وإطاراً مشؤوماً يدّعي أنه يمثل الإسلام الصحيح والمنهج القويم، وأن فرقته هي الفرقة الوحيدة الناجية… وكثرت الدوائر والأطر، وتصارعت وتقاتلت ولطخت بعضها بعضاً بالدماء الحرام.
كثرت الأطر المغلقة والمنغلقة على نفسها… وها نحن في القرن الحادي والعشرين، في عصر المعلومات والتواصل والاتصال، في عصر العولمة والقرية الصغيرة، وبدلاً من أن نصير أمة واحدة، صرنا أمماً شتى، وفرقاً متناحرة. جماعة السلفيين يقولون نحن على الحق، وجماعة الإخوان يقولون نحن على الحق، وأنصار السنة يقولون نحن على الحق، وبوكو حرام يقولون نحن على الحق، والصوفية يقولون نحن على الحق، والشيعة يقولون نحن على الحق، وغيرهم كثير يكاد لا يحصى، كل جماعة تدّعي أنها على الحق… والحق أنهم جميعاً ليسوا على الحق، والحق أن استئثار جماعة، أياً كانت، بالإسلام لنفسها، واحتكارها له دون غيرها، والتحدث باسمه، ليست على الحق في شيء، وإن شر ما ابتدعه المسلمون في تاريخهم الطويل هو تلك الجماعات الزائغة عن سبيل الرشاد، فالإسلام دعوته للناس أجمعين، ورسول الإسلام مبعوث للعالمين.
والحق الذي نراه واضحاً كالشمس، وقد أغلقت العقول عن فهمه وإدراكه، أن أصحاب المصالح والمنافع سعداء بما نحن فيه، ويعملون مجتهدين على تأجيجه بكل سبيل، ويريدون له أن يستمر ليستثمروه، ثم يستأثرون وحدهم بثماره التي أنضجتها دماؤنا.
ألم يأن لنا أن ندرك أن أخطر فكرة تواجه الإسلام وتواجه شعوب المسلمين، منذ أمد بعيد وإلى الآن، هي فكرة تأطير الإسلام.. تلك الفكرة الخبيئة الخبيثة، التي إن لم نواجهها ونستأصلها من جذورها بكافة السبل الممكنة، فعلى الأمة السلام.. أو لا سلام.. فأنّى يأتي حين الصواعق السلام؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.