ينتابني انطباع دائم بأن العراقي ضد أي حكومة كانت، منذ الحكم العثماني للعراق إلى وقتنا الحاضر، مروراً بالعهد الملكي، ثم الجمهوريات المتعاقبة على أثر الانقلابات العسكرية العديدة.
وربما كان ذلك نتيجة انعدام الثقة بين الإنسان العراقي والحكومة التي تنظم أموره، فالعراقي لديه قناعة بأن الحكومة ما هي إلا سلطة موجهة لاضطهاده من خلال القوانين المتشددة، ومن خلال الضرائب المفروضة عليه، وكذلك التجنيد أو الخدمة الإلزامية، ولذلك فهو يفرق دائماً بين نحن وهم. وهم تمثل السلطة أو الحكومة الغاشمة التي تحاول أن تضطهده أو تبتزه بأي طريقة كانت.
وهذا السلوك لازم العراقي وتوارثه من الآباء والأجداد، وهذه لم تأت من فراغ، فأكثر المختصين بعلم السلوك يعتقدون بأن سلوك الفرد لا يقتصر عليه فقط، بل إنه ينتقل إلى أولاده ثم أحفاده عن طريق الجينات الوراثية.
فذاكرة الجينات لا تحتوي على المكونات البيولوجية فقط، وإنما تتضمن أيضاً مكونات سلوكية متوارثة من الآباء إلى الأولاد.
وبناء عليه، فإن المسيرة السياسية والحكومية منذ الحكم العثماني وقبله قد أعطت الفرد العراقي سلوكيات معادية للوالي وللسلطان ثم للحكومة، وقد تعزز هذا العداء من خلال الدراسات والمطالعات التاريخية أو التراث الشعبي المتوارث أيضاً، وعلى مر الزمان كان العراقي ينتمي إلى عائلته وعشيرته وقوميته ودينه، ثم تحول انتماؤه في الأزمنة المتقدمة إلى حزبه، وتعصب لحزبه لأنه يمثل في نظره طوق النجاة للخلاص، وكأنه المسيح المخلص.
ولذلك نرى تمسك العراقي بحزبه وكرهه للحزب المقابل؛ حيث أصبح الحزب المظلة التي يحتمي بها بدل العشيرة أو الطائفة.
وبعد أفول نجم الأحزاب القومية واليسارية فقد العراقي الفكر الأيديولوجي للحزب واتجه نحو الدين والعشيرة مرة أخرى، ومن ثم انتكس إلى الطائفة كبديل عن الحزب، وهذا هو السبب الرئيسي لضعف روح المواطنة في داخله، وحلت محلها السلوكيات والطقوس الدينية والمذهبية، وقد كانت المواطنة رديفة للفكر الحزبي، أو من مستلزماتها، يضاف إلى ذلك أن المواطن قد فقد الإطار الوطني العام نتيجة ضعف الدولة، واختلال النظام العام، كما رفع الغطاء الرقابي والتوجيهي عنه، ونتيجة لذلك حلت الفوضى والآراء الشخصية المتخلفة وسادت الأدعية والأعراف الدينية، كما فقدت الاحتفالات الوطنية أهميتها وحلّت محلها المناسبات الدينية التي توسعت على حساب العمل، واضمحل الواجب الإداري الوطني أمام الكم الهائل من الدعايات والتطرف الديني.
وقد شجع هذا النهج الانتشار الواسع للفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، وكان من نتيجة انحسار روح المواطنة أن تم استغلال الوظيفة لتحقيق مكاسب شخصية مثل الرشوة والمحسوبية، مع إخضاع المصلحة العامة للمصالح الشخصية.
إن العراقي يميل بطبعه نحو التفرد في قراراته، ولا يؤمن بالعمل الجماعي إلا إذا اضطر لذلك، وهو يعتقد نفسه دائماً أفضل من غيره، ولذلك نجد كل وزير أو مدير عام عندما يتسنم وظيفة يهدم كل ما بناه سابقه؛ ليعيد البناء على وفق نهجه وأسلوبه، ولا يحاول إكمال ما بدأه سابقه من أعمال؛ ولذلك لا نرى تراكماً للإنجاز أو الخبرات عندنا في العراق، بعكس الدول المتقدمة حيث تضع نظماً وأسساً محكمة للوظائف ووصفاً ووظيفة لكل عمل، مما يترتب البناء عليه دائماً مع مراجعة العمل من قِبل متخصصين لتطويره، ولا يحق للموظف أو العامل الاجتهاد أو الخروج عن هذه الضوابط بمحض إرادته، وبالتالي ليس له الحق في هدمه وإعادة بنائه بمزاجه.
إن الإنسان العراقي مقابل كل ذلك هو شخص ذكي مبدع عندما يعمل في دول لها أطرها القانونية والتنظيمية المتقدمة، وكذلك في وجود سلطة قوية يعمل داخل إطاراتها الرسمية، ولكنه عند ضعف الدولة أو ترهل النظام يحاول الحصول على مكاسب ذاتية لنفسه؛ لأنه يعتقد أن مجهوده سيذهب إلى الآخرين؛ لينعموا به وليس إلى المجتمع.
يصدق علي الوردي بقوله: إن العراقي لديه ازدواجية بالشخصية ولكنه يعزوها إلى البداوة والحضارة.
الحقيقة أن العراقي لديه ازدواجية بين التمدن والتراث الديني المتخلف، وهو مأزوم من داخله نتيجة هذه الازدواجية حتى المثقفين منهم، بل إن المثقفين يعانون أكثر من غيرهم من هذه الازدواجية، فالمثقف يحاول أن يكون متمدناً ويسلك سلوكاً مدنياً، إلا أنه متمسك بالتقاليد الدينية وهو في هذا المنحى يخشى من الآخرين الذين يتهمونه بالإلحاد وربما يهدرون دمه، وكذلك يخشى من ضياع الهوية الدينية كونه مسلماً له صفات وخصائص تميزه عن غيره.
وعلى العموم فإن العراقي غير متدين، فإنه يحبذ الطقوس الدينية ويفضلها على أصل الدين وروحه.
إن الازدواجية في شخصية العراقي تنعكس على مجتمعه، ولذلك نراه شديد العداء لكل من يخالفه، ولكنه شديد العاطفة والهمة في إنقاذ من يحتاج إلى مساعدته وهو أحياناً يضحي بنفسه من أجل ذلك، وهو يتمتع بالنخوة والفروسية بمعناها الأخلاقي، وهو كريم ومعطاء.
من كل ذلك يتضح أن الشخصية العراقية مأزومة عبر التاريخ إلى يومنا الحاضر، إلا أن ذلك لا يعني أنها شخصية ميؤوس منها، ولا تقبل الإصلاح، كما أن صفات التفرد وحب الذات والتمرد على الأنظمة والقوانين التي يتصف بها العراقي ممكن تغييرها عند توافر الظروف المناسبة، وأهمها حكومة عادلة تطبق القوانين على كل الأفراد دون تمييز أو تفضيل، وكذلك التركيز على المفاهيم الحضارية والوطنية في المدرسة والإعلام مع نبذ التراث الديني المتخلف، وإحلال روح التسامح وإنكار الذات واحترام الرأي المقابل والقبول بالتنوع وإشاعة المفاهيم الدينية الهادفة إلى تحقيق البناء الروحي للإنسان بدل التعصب والتطرف والاستمرار على هذا النهج حتى يتم ترسيخه، ويصبح سلوكاً جديداً؛ ليحل محل السلوكيات السلبية والمتعارضة مع التقدم الحضاري والعلمي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.