ينص دستور ما بعد الثورة في تونس على تقسيم جديد للسُّلَط المحلية قائم أساساً على ديمقراطية لا مركزية تفرط فيها الحكومة المركزية إلى جماعات محلية منتخبة، في جملة من الصلاحيات، لعل أبرزها الاستقلالية المالية.
ويتواصل الجدل مرة أخرى في تونس حول موعد جدي لانتخابات تأجلت في أكثر من مناسبة، وفي كل مرة نجد لائحة من التفسيرات والتأويلات، قد يتجاوز بعضها حدود الخيال العلمي.
ولعل أبرز حجة يجدها من يدافع عن التأجيل، هي عدم قدرة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على تنظيم الانتخابات في الآجال المحددة إثر الصعوبات التي شهدتها تركيبة هذه الهيئة بعد استقالة رئيسها السابق "شفيق صرصار" مع مجموعة من الأعضاء. ومراحل سد الشغور وعدم توافق السلطة التشريعية على رئيس يخلف "صرصار" انتهت بتركيبة جديدة بعد تجاذباتٍ حادةٍ بين الفرقاء السياسيين -وخاصة منهم حزبي الأغلبية المتحالفين- امتدت لأشهر.
إلا أن هذه الحجة لا يمكن أن تصمد أمام حقيقة دستورية؛ وهي أن آجال 3 أشهر التي حددها الدستور كي يمضي رئيس الجمهورية على أمر الانتخابات قبل موعدها، هي نفسها الآجال التي يمنحها الدستور للهيئة وللسُّلط بصفة عامة لتنظيم انتخابات رئاسية في صورة شغور منصب الرئيس، وتشريعية في صورة حل مجلس نواب الشعب؛ أي إن عدم استطاعة الهيئة تنفيذ الانتخابات في آجال 3 أشهر، يعني عجزها عن احترام الدستور في صورة حدوث أمر طارئ.
والحقيقة غير ذلك، فالمشرّع التونسي لم يأخذ بعين الاعتبار، عند رسمه ملامح الجماعات المحلية، واقع البلاد السياسي، فجعل لكل جماعة مجلساً بعدد أعضاء محترمٍ حسب سكان المنطقة، كما جعل كل صنف من الجماعات يغطي تراب الجمهورية بالكامل؛ مما أدى إلى ارتفاع عدد البلديات لتبلغ أكثر من 350 بلدية؛ أي ما يعادل 7500 عضو مجلس بلدي دون احتساب أعضاء المجالس الجهوية والإقليمية.
وأمام ضعف المشهد الحزبي في تونس وعدم قدرته على استيعاب المواطنين، تجد الأحزابُ التونسية اليوم صعوبةً كبيرةً في المشاركة بجدية في العملية الانتخابية حتى ضمن تحالفات وتوافقات؛ لعدم القدرة على جمع مترشحين ضمن قوائم كاملة على عدد أعضاء المجلس أقرها الدستور والقانون الانتخابي، مع ضرورة تشريك الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة واحترام التناصف العمودي والأفقي، مما زاد الأمر صعوبة.
صعوبة تشكيل القوائم كوَّن ما يشبه توافقاً بين جميع المكونات السياسية وحتى الحاكمة منها على خطورة إجراء الانتخابات بالنسبة إليها حتى وإن تأجلت في العديد من المناسبات لمزيد اغتنام الوقت؛ بل إن إجراء الانتخابات يعني حتمية هيمنة طرف بعينه، وهو حركة النهضة، على أغلبية المجالس المحلية، وهو ما أكده معز بوراي، رئيس الجمعية التونسية من أجل نزاهة وديمقراطية الانتخابات (عتيد) السابق، ضمن دراسة قامت بها المنظمة، تؤكد أن 70 في المائة من المجالس ستشهد منافسة بين قائمتين على الأكثر.
بل إن بعض المجالس لن يترشح لها سوى حزب واحد، حتى إن البعض يتحدث عن عدم جرأة حركة النهضة على هذا الفوز، الذي سيُرجعها لخانة يهوى خصومها وضعها فيها، وهي صورة الوحش الضخم الذي يأكل الأخضر واليابس والذي وجب التصدي له، وهو ما يفسر في الحقيقة مبادرتها في تخصيص نسبة من قوائم ترشحاتها لما سمَّتهم المستقلين، أو ربما هي طريقة مبتكرة لدمج حليفها، حزب نداء تونس، ضمن قوائمها في المناطق التي عجز فيها الأخير عن تكوين قوائم ضمن ما يحلو لهم تسميته التوافق، مثل ما حدث في الانتخابات الجزئية بألمانيا، حيث توافق الحليفان على مرشح تحت راية حزب النداء.
إلا أن الدفع نحو إعادة تأجيل الانتخابات هو إقرار بإلغائها؛ لعدم منطقية الجمع بين استحقاق تشريعي ورئاسي ومحلي في سنة واحدة؛ بل ربما قد يفتح الباب نحو مراجعة منظومة تقسيم السُّلط ضمن تعديل للدستور، سبق أن تحدث عنه.
عجز النخبة السياسية عن إجراء انتخابات محلية بعد 7 سنوات من الثورة، لا يمكن إلا أن يزيد الهوة بينهم وبين المواطن التونسي، الذي تؤكد كل الإحصائيات بالفعل عدم مشاركته في العملية الانتخابية في جل مراحلها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.