الخوف من التغيير

يفضل الكثيرون العيش على ما هم عليه على أن يجازفوا بتغيير الواقع -وهي ظاهرة اجتماعية- حتى لو كان هذا الواقع فيه الكثير من المذلة والهوان، بعضنا يتمنى التغيير لكنه لا يريد الاختيارات، يفضل لو جاءه التغيير كفرض يجب تنفيذه باعتباره حلاً نهائياً ليس له بديل وليس له حق حتى الرفض، فهم يخشون لوم أنفسهم أكثر من لوم الآخرين.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/24 الساعة 02:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/24 الساعة 02:23 بتوقيت غرينتش

فكرة "التغيير" حيال أي شيء، غالباً ما تثير المخاوف؛ فهي في اعتقاد الكثيرين خطوة مليئة بالمخاطر ويسودها الغموض؛ لأنها دائماً ما تتجه نحو المجهول وعدم الاستقرار؛ لذا تجدهم دائماً يفضلون الاستمرار على نمط الحياة نفسه الذي يعيشونه، والذي يمثل بالنسبة لهم مرحلة من مراحل الاستقرار.

التغيير سنّة كونية؛ بل هو خطوة من خطوات التطور بالحياة وفي جميع المجالات، وإلا لما سارت عجلة الحياة دون توقف. قد نؤمن ببعض هذه التغيرات ونسلّم بها على أنها حقيقة لا مفر منها، وقد نتحفظ على بعضها الآخر بعد أن نشعر بأننا غير قادرين على التأقلم مع تلك المتغيرات، فننعتها بأوصاف لا يقرها عقل ولا منطق.

يقول الفيلسوف اليوناني هرقليطس: "إن التغيير قانون الوجود، وإن الاستقرار موت وعدم". "هرقليطس" شبَّه فكرة التغيير بجريان الماء في النهر، فعندما يكون في حالة حركة وجريان يكون نقياً، أما في حالة الركود فإنه يأسن وتخرج رائحته.

ما حدث في كثير من الدول العربية من تغيير الأنظمة التي جثمت عقوداً على صدور شعوبها، أصاب الكثيرين بالخوف والقلق من المستقبل، ويرجع هذا الخوف في الغالب إلى التوجس من عواقب هذا التغيير.

يفضل الكثيرون العيش على ما هم عليه على أن يجازفوا بتغيير الواقع -وهي ظاهرة اجتماعية- حتى لو كان هذا الواقع فيه الكثير من المذلة والهوان، بعضنا يتمنى التغيير لكنه لا يريد الاختيارات، يفضل لو جاءه التغيير كفرض يجب تنفيذه باعتباره حلاً نهائياً ليس له بديل وليس له حق حتى الرفض، فهم يخشون لوم أنفسهم أكثر من لوم الآخرين.

التغيير سنّة كونية اجتماعية ونفسية، والتاريخ يؤكد لنا أن الحاجة إلى التغيير قضية هامة لاستمرار الحياة، كما أن التغيير فعل اجتماعي تقوم به الجماهير، ولا سيما الطبقات التي تعاني الظلم، طامعةً في تبديل ظروف حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى الأفضل.

تجاوَز خوف البعض من ظاهرة التغيير إلى محاربتها حتى قبل أن تفكر فيها الجماهير، ونلحظ ذلك من خلال سيناريو إفشال الثورات وإدخالها في الفوضى، وهي السياسة المعتمدة من عدة دول لتدمير التغيير وإفشاله؛ حتى لا يحقق نجاحاً ويكون واقعاً جديداً جذاباً.

لكن بالتجارب التاريخية، كل هذه المحاولات ستبوء بالفشل؛ لأن الحياة التي نعيشها قائمة في الواقع على ثنائية التناقضات والأضداد وعلى التغير والتطور والتحول المستمر في كل شيء، ومن بينها -بكل تأكيد- المجتمعات.

هذه التناقضات تؤدي بالضرورة إلى تغيير الواقع الحياتي وظهور أشكال جديدة بالمجتمع والسياسة وفي بنية الدولة؛ لذا يعد التغيير -ولا سيما في الأنظمة السياسية- عملية مستمرة دائماً.. سواء كان هذا التغيير سريعاً أو بطيئاً، فهو آتٍ لا محالة.

وبما أن الخوف من التغيير يعده العلماء مرضاً نفسياً "تروبوفوبيا"، فإنه يحتاج إلى خطوات للعلاج، حيث يعالَج الشخص المصاب بفوبيا التغيير عبر تعريضه تدريجياً أو بشكل مفاجئ للمواقف التي تثير مخاوفه، وهذا يقودنا إلى نتيجة واحدة؛ وهي أنه لا مهرب من خوف المجتمعات من التغيير إلا عبر مواجهة التغيير ذاته.

وعند حدوث التغيير يتململ البعض – وفي الغالب هم الأطراف الذين لم يساهموا في هذا التغيير- وترتفع أصواتهم بالنقد، وفي الكثير من الأحيان بالسب والشتم للواقع الذي تسبب فيه هذا التغيير ولعن كل من شارك فيه.

هذه الأطراف في العادة -بعد كل حالة تغيير- تصاب بــ"نوستالجيا" أو ما يُعرف باسم الحنين إلى الماضي، وهي حالة عاطفية نصنعها نحن في إطار معين وفي أوقات وأماكن معينة، ويمكن وصفها بأنها عملية يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة مع طرد جميع اللحظات السلبية.

فيتذكر هؤلاء كل إيجابيات ومحاسن الزمن الذي يسبق التغيير، ويعيشون في حالة من الحسرة والندم لا تقدِّم ولا تؤخِّر الواقع الذي يعيشونه.

ما لا يعرفونه أنه في حالة "النوستالجيا" دائماً ما نصنع الذكريات الجميلة فقط ونبحث عن السعادة في الذكريات الدافئة، ولا تسمح لنا هذه الحالة باسترجاع أي ذكرى سيئة عن ذلك الزمن، فنتوقف بمكاننا، وفي الكثير من الأحيان تجعلنا نكره حاضرنا، ومن ثم مستقبلنا، فيبقى الماضي هو الأفضل دائماً وأبداً!

العلّامة العربي "ابن خلدون" في مقدمته الشهيرة، ينطلق من مبدأ أوليّ ومفهوم جوهري، يمكن أن نعده منطلق تفكيره في نظريته السوسيولوجية؛ وهو أن التغيير سنّة من سنن الحياة، وأمر حتمي لا مرد له، ومن دونه تصبح المجتمعات في حالة سكون، يؤدي في النهاية إلى انحلالها واختفائها.

التغيير سُنّة الحياة، وبما أنه سُنّة الحياة فقد أصبح أمراً حتمياً لا مفر منه. أما من يعجز عن التكيف مع التغيير، فهو يحكم على نفسه بالاندثار.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد