كيف تُبرمج الذاكرة السلبية عبر الأجيال؟

ولا يزال أحدهم يقول للآخر: أنت لم ترَ الذي رأيناه خلال حرب تحريرنا من داعش، لم تتعرضوا للأذى كما تعرضنا أجل، لم نتعرض أنت من قررت أن تبقى وتتحمل كل الاحتمالات سلباً وإيجاباً، وأنا من قررت أن أخرج، وأن أتحمّل كل الاحتمالات سلباً وإيجاباً، ليس ذنبك أنك خرجْتَ وليس ذنبي أنني بقيْتُ، على كلِ واحدٍ منّا أن يتحمّل نتيجة اختياراته في الحياة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/23 الساعة 03:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/23 الساعة 03:13 بتوقيت غرينتش

منذ الصغر ومع أول مؤهلات التمييز اليسيرة، وُلدنا مع انتهاء حرب وبداية دخول العراق في حصار بعد رجوعنا من احتلال الكويت، حكايات الحرب كثيرة لا تكاد تنتهي، فضلاً عن أن التلفاز والمذياع كانا لا يكفّان عن إذاعة الأخبار، لم نكن نعلم أننا سنكون في يوم من الأيام قصة أو حكاية حرب تروى للآخرين، ربما براءة الطفولة ولهوها لم تجعلنا ندرك كلمة حرب على حقيقتها، حرب وما تعني حرب أناس يتقاتلون وما المشكلة في ذلك لم يكن ثمة مشكلة حقيقية بالنسبة لنا ربما نستمتع بالحديث عنها، أو تكون سبباً لاجتماع الأهل والأصحاب، على كل حال عشنا الحرب وقُتِل بعض أصدقائنا وأقرباء لنا قضوا حتفهم في هذه الحرب، تُرى أين يكُمن الخلل؟ لماذا استطاع المجتمع أن يوجه جيلاً كاملاً لتُقبّل الحرب؟

لماذا دائماً عندما نتكلم أو نريد أن نحيا حياة هادئة يذكرنا الآباء بعبارة أو أصبح قولاً شائعاً أحدهم يسوقه للآخر (أنتم ما شُفتم اللي شُفناه)؟

أجل وأين المشكلة؟ إذا أردنا أن نحيا حياة لا بُد لنا أن نرى الذي رأيتموه أنتم في طريقكم، ليس شرطاً ولا عدلاً أن تتمنى البؤس الذي عشته أن يعيشه الآخرون.

ليس شرطاً إذا أردت أن تنهر شخصاً معيناً يسعى لحياةٍ كريمةٍ أن تقول له: نحن أفضل من غيرنا، انظر للذين يجلسون في الخيام، أو انظر للذين لا يجدون قوتهم، أو انظر للذين يتمنون نفس عملك، بإمكانك أن تقول له وبصراحة: أنا لا أريدك أن تفعل هذا الأمر، بدلاً من أن تربطه ربطاً سلبياً بأحداث ليس له ذنبٌ في حدوثها في هذا العالم، أجل لقد أصبحنا نجد غايتنا في الأحداث المريرة التي حولنا؛ لنبرر بها فشلاً.

لقد كان جارنا أبو عبد الله الذي عاش ثلاث سنوات عجاف في ظل حكم داعش، يكره مَن يحدثه عن ثورة الشواف وما حدث فيها؛ لأن هذه الثورة لم تستمر سوى بضعة أيّام، وعدد القتلى لم يتجاوزوا العشرات، مزعجة جداً هذه الذاكرة السلبية التي تحدّثُ الصغار والكبار بكل ما هو سلبي.

جدتي -رحمها الله- كلما تجمّعْنا حولها تحدثنا عن ثورة الشواف وما حصل فيها على بساطة الحدث، أو بعضهم يحدثنا عن خدمته العسكرية، وأننا لن نَبلغَ مبلغَ الرجال؛ لأننا لم نخدم الخدمة الإلزامية.

ولا يزال أحدهم يقول للآخر: أنت لم ترَ الذي رأيناه خلال حرب تحريرنا من داعش، لم تتعرضوا للأذى كما تعرضنا أجل، لم نتعرض أنت من قررت أن تبقى وتتحمل كل الاحتمالات سلباً وإيجاباً، وأنا من قررت أن أخرج، وأن أتحمّل كل الاحتمالات سلباً وإيجاباً، ليس ذنبك أنك خرجْتَ وليس ذنبي أنني بقيْتُ، على كلِ واحدٍ منّا أن يتحمّل نتيجة اختياراته في الحياة.

بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يربط الأماكن التي حدث فيها للمسلمين أحداث سلبية، كان يتحدث عنها بشكلٍ إيجابي، جبل أُحد رغم الألم والذكرى الحزينة فإنه كان يقول: (أُحدٌ جبلٌ يحبنا ونحبه)، ولو كنّا نحن لكرهنا ذلك المكان لارتباطه بذكرى الهزيمة المرّة، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حوّل علاقة الذكرى الأليمة مع المكان إلى علاقة حب، وحتى في الأثر نهى النبي عن العزاء بعد ثلاث؛ لكي لا يتم تجديد الحزن وتسفيره للنسيان.

هذه الذاكرة تبرز وتظهر للعلن ويكون الحديث عنها بشكل مفرط حين تكون المدن على أبواب الحرب.

هي بمثابة أن تتقبّل الاحتمالات السلبية فليس أمامك إلا خيار واحد سلبي قد عاشه أجدادك وآباؤك ولا يوجد خيار إلا أن تعيشَ كما عاشوا.

هذه الذاكرة السلبية إن لم تعالج بطرق صحيحة ونجعل للإنسان قيمة معنوية يسعى فيها للحياة الكريمة بعيداً عن الألم يسعى لحياة مليئة بالحب.

كلنا نبحث عن حياةٍ بعد الموت ونحن بالحقيقة لم ندرك الحياة قبل الموت.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد