تمتلئ حياة أغلبنا بالمسائل الدنيوية، وأجرؤ على قول إن الأمر ينطبق علينا جميعاً. وإنني آسفٌ لأن أقولها صراحةً بهذه الطريقة، فقد تبدو صادمة.
إننا نناضل من أجل إجراء عملية عميقة، وعندما ينكشف شيء ذو إحساس شديد العمق والحدة، فإننا في الغالب، كأفراد وكمجتمع، ننفض غبار الماضي ونهز رؤوسنا في عجب، ونادراً ما نستغرق الوقت المطلوب لاستيعاب كيفية حدوث الأمور، أو حتى ربما لا نستغرق الوقت لنراها من الأساس.
جميعنا مذنبون، والعدو -أحياناً وليس دائماً- هو الوقت نفسه، فالوقت يُسرق منا، أو ربما لنكون أكثر تحديداً، إننا نسرقه من أنفسنا؛ إذ نشغل الفضاء المطلوب لاستيعاب الأشياء العميقة بالتفاهات، وقوائم التسوق، والأشياء التي سنفعلها، والمهام، وفي بعض الأحيان نشغله بالتفكير الضبابي الصبياني الأناني.
لا يوجد أي شيء خطأ في حد ذاته يتعلق بهذا الأمر؛ فنحن في حاجة إلى المسائل الدنيوية بنفس قدر حاجتنا إلى الأمور العميقة.
وفي الواقع، لا يمكن للمرء أن يحظى بالثانية دون الأولى؛ بل إننا أيضاً نحتاج في بعض الأحيان إلى التفكير الضبابي الصبياني الأناني.
ولكن مؤخراً، كان الأمر كما لو أنني أشق طريقي عبر هذه المسائل الدنيوية الجليلة -فأستريح ومعي كوب من القهوة، وأستمع إلى بعض موسيقى شوبان، وأجلس على كرسي وثير في فناء منزلي خلال أحد صباحات أيام الأحد- لدرجة أنني أتعلم أيضاً التصالح مع التغير العميق الذي حدث بداخلي نتيجة لإصابتي بورمٍ في المخ، ثم إزالته، أو إزالة معظمه، وتجربة التغييرات التي حدثت نتيجة لذلك.
لقد تطلب الأمر شيئاً أكثر من مجرد بعض الأوصاف المبتذلة لوصف مثل هذا التعديل.
كان ثمة حماسة في نظرتي إلى العديد من الأشياء قبل العملية الجراحية، وإلى الحياة التي عكست ما كنت أرى، وهو أن كل شيء خاطئ في هذا العالم، في بعض الأوقات، ولا سيما عندما تنطبق هذه النظرة على فنون المرء، يمكن أن تكون مفيدةً لأنك ترى الأشياء التي لا يراها الآخرون، وهو ما يُمَكِّن الفنان، في جانبٍ منه؛ كي يكون فناناً.
يمكن أن يجلب تطبيق هذه الحماسة على أي منفذ إبداعي بهجةً رائعةً للآخرين، فكروا في سيمفونية لبيتهوفين، أو لوحة لبريت وايتلي، أو رواية لباتريك وايت، ولكن كان هناك هرج وطرافة سامية في أعمالهم ولا تزال موجودة، على الرغم من أن المرء عليه في بعض الأحيان أن ينظر عن كثب ليبصرها.
إنني أذكر ذلك لأنني على الرغم من أنني لن أكون قادراً أبداً على تأليف موسيقى مثل بيتهوفن أو رسم لوحة مثل وايتلي، فإنني أنقل الحماسة التي يمكن أن يكون لديها بصيرة وظرافة، لكنها تفتقد إلى نوع محدد من التعاطف، وهي سعة فهم لما يعنيه أن يكون المرء إنساناً حقاً.
قبل إجراء العملية، كان جزءاً منّي غاضباً من الآخرين ومن العالم ومن كل شيء من حولي، كنت دائماً متضايقاً مما ارتأيته ارتداداً ثقافياً، لقد كنت مراقباً بدلاً من أن أكون مشاركاً، وهو فارق هام.
على سبيل المثال، قبل التشخيص بإصابتي بورم في المخ، كنت أسير بمكان التسوق المحلي بقريتي، ولا أتذكر الشيء الذي كنت أتسوق لابتياعه، عندما لاحظت امرأة صغيرة تبلغ من العمر حوالي 18 عاماً وتسير نحوي.
لم يكن هناك شيء غير اعتيادي في سلوكها فيما عدا أنها كانت تنظر إلى الأسفل، وتنظر إلى هاتفها المحمول وترسل رسائل نصية مع اقترابها منّي، لم تلحظني الفتاة، كنا على وشك الاصطدام، ولم أكن سأغيّر مساري فقد كان لديّ كبريائي، كنت سأعلمها درساً لكي تنتبه.
عندما اقتربنا لنقطة الاصطدام، رفعت الفتاة رأسها ويبدو أنها لاحظت اقترابي منها في اللحظة الأخيرة، ثم اصطدمت أكتافنا عندما حاولت ببراعة تجنب الاصطدام الكامل.
شعرت برغبة، على الرغم من أنني لم أسِر خلف هذه الرغبة، في إعطائها محاضرة تتعلق بالحاجة؛ لأن يكون المرء بالغاً مسؤولاً عما يفعل.
استمرت في السير ولم تعِرني انتباهاً للحظة حينما نظرت إليها شزراً وكنت على وشك القيام بما انتويت فعله، إنني أنظر إلى الماضي الآن وبعد كل شيء مررت به، في هذا الحدث الدنيوي، والعبثية المطلقة، والغرور الحقير المتمركز في تفكيري خلال هذا الوقت.
كان هناك فتاة في شبابها، ولديها حياتها الرائعة الممتدة أمامها وتفعل شيئاً مليئاً بالطاقة والنشاط والحماسة، فيمكن أن تكون فتاةً تبلغ من العمر 18 عاماً وترسل رسالة نصية إلى صديقتها بينما تسير في الشارع، وهي مهام متعددة مثل التي أتمنى لو كنت قادراً على القيام بها، وكانت تصدم كتفها بكتفي رجل ذي نزوات غريبة يبلغ من العمر 50 عاماً وبلا أي مسرّات في الحياة.
لقد كانت تفعل الشيء الذي كنت سأفعله، بالأحرى إذا كنت في عمرها ولدي هواتف ذكية مُخترعة من أجل جيلي وإذا كان لديّ بهجة الحياة التي لدي الآن.
كيف يبدو الأمر الآن؟ إنني أسمح لسيارات الآخرين بأن تسير في المساحة المفترضة لي، وإذا تجاهلوا توجيه الشكر لي، فإن الأمر يغضبني لثوانٍ معدودة وبعدها أنسى المسألة برمتها، وإنها واحد من الفخاخ المدنية السخيفة التي تضيف مزيداً من مستويات الضغط لدينا إذا تركناها تتحكم فينا.
قبل العملية، كنت أغضب بسبب هذا التصرف وأشن حملة لمكافحة التمرد الذي يقوده هذا الشخص المعادي للإنسانية، وكل الأوصاف الأخرى التي تليق به، والآن، أخبر نفسي أنه ربما واجه يوماً سيئاً، وربما يسارع إلى المستشفى ويشغله هذا الأمر للغاية لأن يتوقف ويشكرني.
وإني أقدم الشكر لنفسي لاستطاعتي مساعدتهم، فلن يمنعني ما يفعلونه عن أن أصل إلى المكان الذي أريد الوصول إليه.
أشعر بالبهجة من رؤية الناس يعيشون حياتهم بالطريقة التي يريدون أن يعيشونها، ومن الاحتفال معهم بإنجازاتهم وفي نفس الوقت بإنجازاتي.
والاحتفال هنا حقيقي وليس احتيالاً على الواقع أو صخباً أو ضوضاء، إنه احتفال من خلال الوقوف صامتاً أسفل الدرج والابتسام عندما أدرك أنني لم أكن قادراً منذ شهرين على حمل كوبين من القهوة في نفس الوقت والصعود بهما عبر الدرج، ولكني الآن قادراً على ذلك، حتى إن كانت رحلة أبطأ وأكثر تأنياً، فضلاً عن رؤية ابتسامة زوجتي لاندهاشها من أنني استطعت ذلك.
إنني أضحك مع الركاب الآخرين في الحافلة عندما اضطر لطلب استخدام المقاعد المخصصة للعاجزين، بدلاً من اتخاذه وازع لإلقاء محاضرة عليهم أو مضايقتهم.
دائماً ما يكون الناس كرماء ومتسامحين ومهتمين بمعرفة ما الأمر مع شخص يبدو صحيحاً وغير عاجز ومع ذلك يطلب الجلوس على أحد الكراسي عندما تترنح الحافلة ويسقط على أرضيتها المتسخة.
سوف أكون على ما يرام في يوم من الأيام وأقف بدون صعوبات، وربما لن أكون هكذا، والمسألة لا تهم كثيراً إذا وقفت أو جلست وضحكت.
لقد قابلت أشخاصاً كثيرين بعد أن رميت بنفسي لرؤية ما إذا كنت بأي طريقة بسيطة قادراً على مساعدة الأشخاص الذين يمرون برحلة مع معاناتهم من الإصابة بورم في المخ ولإيصال الرسائل التي نمتلكها جميعاً، وهي رسائل هؤلاء الأشخاص الذين أظهروا مرونة فريدة لموقفهم الخاص، وكثير منهم -بعد الانتهاء من هذا الحدث الذي مروا به- يتعاملون مع الأمور الدنيوية بشجاعة لم أكن قادراً على رؤيتها من قبل. لا يجلب هذا حزناً بقدر ما يجلب فرحاً لكونه يعرض حالة بشرية بكل ألوانها ونبلها.
إنني أستغل البهجة لصالحي ولكنني آمل أن تكون لصالحهم أيضاً، وهي ضمن مزايا أن يكون لديّ علاقات مع هؤلاء الأشخاص المذهلين.
ليست مبالغة زائفة، إنها حياة حقيقية، وبعد أن قلت ذلك: إنني آمل حقاً أن أكون قد أبقيت على تفوقي الفني، لا يمكنني أن أقول ذلك، فإنني مشغول في الخوض في فن الحياة من أجل مراعاة الآخرين، على الرغم من أنني أشك أنني استطعت المحافظة عليها، أو ربما أضفت إليها بعض البهارات.
لقد استوعبت الأمر، إننا نشكل العالم من حولنا حسب البطاقات التي لدينا، ثم نبدأ في الإدلاء ببيان، بدون أدنى جلبة، يشير إلى أن هناك سحراً في هذه الأيدي.
إنني مفتون بالتغير الحقيقي الذي قد يكون حدث عن طريق جراح الأعصاب الخاص بي الذي قضى 15 ساعة داخل رأسي، فأي جزء من عقلي توقف ليعيد تنظيم مخّي. فالإيجابية التي تعزى إليّ منذ ذلك الحين تنبع من هذا: أن تُدخل كل شيء وتجمع البطاقات وتدلي بنفس هذا البيان.
فالأثر العميق لا يستبدل بالنظرة الدنيوية شيئاً آخر، لكنه يمنحها معنى جديداً.
لا شك أن أورام المخ أشياء وضيعة بشكل مثير للاشمئزاز، ولكن عندما نتجاوزها فيمكنها أن تغيرنا.
الناس من حولنا يغيروننا، إننا ننظر إلى الأشياء نظرةً مختلفةً، وننظر إلى الأشخاص نظرةً مختلفةً، وننظر إلى كل الأشياء نظرةً مختلفة.
أما التغيير، فهو حقيقي وعميق.
هذه التدوينة مترجمة عن النسخة الأسترالية من هاف بوست. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا
.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.