حينما كنت وزيراً

بصراحة لم أصدق القبول في بادئ الأمر، ولكن بمجرد أن تم التأكد من موافقة معالي الوزير، بدأ العمل الفعلي لوضع خطة حقيقية لاستثمار سبعة أيام من هذا التكليف في مطبخ صنع القرار في الوزارة، وكان لخطتي بُعدان: جانب عملي أطمح فيه أن أطرح ما في جعبتي من مشاريع استراتيجية وإيصال مشاكل مجتمعية والتزود بالخبرة الإدارية، وجانب آخر معنوي يسعى لإرسال رسائل ضمنية إلى المجتمع.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/16 الساعة 03:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/16 الساعة 03:00 بتوقيت غرينتش

إنها لحكاية غريبة، ولا أبالغ إذا ما قلتُ عنها بأنها عجيبة؛ في عوالمنا العربية انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة صحية سياسية شبابية عنوانها (التحدّي).

بدأ الأمر بتحدّي فتاة كندية لرئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بمنشور على وسائل التواصل الاجتماعي وتحديداً (تويتر)؛ لتكون في مكتبه كرئيسة لكندا. وكان ذلك، إذ لاقى هذا التحدّي القبول من شخص الرئيس.

بعدها مباشرة قامت مجموعة من الشباب العراقي بنقل هذه الظاهرة الإيجابية، واستخدموا ذات المنهجية؛ إذ تمت كتابة منشور على الفيسبوك بحكم أنه الأكثر تداولاً في العراق، جرى فيه تحدّي مجموعة من المسؤولين، وافق بعضهم وامتنع البعض الآخر، أما عنّي فقد قمت بتحدّ مباشر وصريح لوزير التربية العراقي الدكتور محمد إقبال الصيدلي، على أن يقبل بأن أتواجد في مكتبه لمدة أسبوع كامل ضمن خطة فعلية لإدارة أكبر وزارة عراقية (وزارة التربية)، والتي تكاد تكون متواجدة في كل بيت عراقي مع 700 ألف موظف وتسعة ملايين طالب.

عللت أسباب قدرتي على التحدي بامتلاكي للخبرة المكتسبة من العمل في مدارس كامبردج البريطانية كأستاذ للفيزياء والرياضيات، واطلاعي وتدريسي لعدة مناهج دراسية منها السودانية والأردنية والعراقية بالطبع، فضلاً عن القليل من الخبرة الإدارية بحكم كوني طالب ماجستير تخصص إدارة أعمال في إحدى الجامعات التركية، مع اعتزازي بشهادتي الأم والأصلية (الدراسات العليا في الهندسة الكهربائية من جامعة الموصل العريقة).

لقد صنعنا بذلك ظاهرة فيسبوكية وقضية شعبية بمطالبة الوزير بقبول التحدي، وكان لنا ذلك؛ إذ وافق معالي الوزير على التحدي بالرد المباشر من حسابه الشخصي على منشوري في الفيسبوك بعبارة: قبلت التحدي؛ ننتظرك بعد الامتحانات.

بصراحة لم أصدق القبول في بادئ الأمر، ولكن بمجرد أن تم التأكد من موافقة معالي الوزير، بدأ العمل الفعلي لوضع خطة حقيقية لاستثمار سبعة أيام من هذا التكليف في مطبخ صنع القرار في الوزارة، وكان لخطتي بُعدان: جانب عملي أطمح فيه أن أطرح ما في جعبتي من مشاريع استراتيجية وإيصال مشاكل مجتمعية والتزود بالخبرة الإدارية، وجانب آخر معنوي يسعى لإرسال رسائل ضمنية إلى المجتمع.

بدأ التحدي وجرت الأحداث وفق تسلسلها المعدّ مسبقاً؛ إذ بدأ اليوم الأول بلقاء تعارفي بيني وبين معالي الوزير، عرفت فيه نفسي ووضعت خطتي بين يديه، وقلت له بالحرف الواحد: إنني أطمح لاستثمار كل دقيقة، وسأسعى لنقل كل شيء إلى الجمهور ووسائل الإعلام بتجرد تام.

أشاد معالي الوزير بكلماتي، وأعلن قبوله التام بل ووجّه الكوادر لفتح أبواب الوزارة والمديريات العامة أمامي، وأن لا خطوط حمراء.

كان تعاوناً ملحوظاً بَنّاءً وداعماً للشباب، كانت فرصة كنت أطمح لاستثمارها على أحسن وجه. ما أن انتهى اللقاء حتى توجهت مع أحد المرافقين في جولة للقاء رجالات الخط الأول في الوزارة؛ لأطرح لهم مشاريعي كل حسب اختصاصه ومجاله، ولأسمع منهم وأُسمعهم، ولأحلل نقاط الضعف والقوة لأصنع منها توليفة مناسبة بين خطط الوزارة وخططي العلاجية والاستراتيجية.

كان يوماً متعباً شاقاً، أوصلت فيه رسائل إلى العاملين بالوزارة بأن الأيام القادمة ستكون كذلك وربما أكثر نشاطاً.

توالت بعدها الأيام الغنية بالعديد من الاجتماعات والجولات الميدانية واللقاءات التي تعرفت من خلالها على مشاريع استراتيجية وتدريبية كثيرة، منها تدريب الآلاف من أساتذة اللغة الإنكليزية في لبنان، وتحديداً بيروت، والتحسن الملحوظ في نسب النجاح في مادة اللغة الإنكليزية كنتيجة إيجابية لهذا البرنامج.

في اليوم الخامس، على سبيل المثال، كنت في جولة ميدانية في مديرية الإعداد والتدريب، وتعرفت على برنامج كبير لتدريب وإعداد 5000 مدرس ومعلم -2000 منهم في نينوى- في مجالات مثل الدعم النفسي وطرائق التدريس والتعليم النشط والحاسوب.

كانت التجربة بمثابة مزيج من المعاينة والمعايشة والمشاركة في صنع القرار، قمت خلالها برصد بعض نقاط الضعف وطرحناها للنقاش مع الوزير، وقد حصلت على وعود بتحقيق بعض التغييرات وسأستمر في متابعة ذلك.

من بين المقترحات التي تم نقاشها موضوع الحوكمة الإلكترونية وتوسعة للمقاعد الدراسية في المعاهد -وقد تحقق ذلك- وضرورة وجود ملفات مشتركة بين وزارات النقل والمالية والتربية لتسهيل تنقلات طلاب المدارس.

اطلعت أيضاً على قانون مهم لحماية المعلم سيتم طرحه على مجلس الوزراء هذا الشهر.

شملت اللقاءات العديدة أيضاً لقاء مع النائب غزوان الشباني عن محافظة الديوانية ووفد من سنجار، للاطلاع على مشاكل الأيزيديين.

ومن بين الأمور التي تحققت بشكل عاجل إيقاف تنسيب الكوادر التدريسية من الجانب الأيمن إلى الأيسر في الموصل بعد نقاش مباشر مع الوزير، أوضحت فيه مخاطر نقص الكوادر التدريسية في مدارس الجانب الأيمن الأكثر تضرراً من الحرب.

كما قمت بطرح مشروع قيمي -بمنهج متكامل من المؤسسة العربية للقيم المجتمعية- يهدف إلى ترسيخ وزراعة القيم لدى الطلبة وممارستها، فضلاً عن مناقشة جُل المشاكل التي تخص المحافظات المتضررة من الأحداث الأخيرة.

كنت أميل إلى إبقاء خط التواصل بيني وبين الناس مفعلاً عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأستثمر قربي من مركز صنع القرار في إيصال مشاكلهم العامة.

وكنت أميل أيضاً إلى طرح مشاكل محافظتي نينوى ومركزها الموصل، التي أخذ منها الإرهاب مأخذه؛ ونال من أبنائها الإرهاق والتعب بعد ثلاث سنوات عجاف انقطعوا فيها عن العالم الخارجي قسراً.

من خلال التجربة عرفت أن بعض الأمور يصعب تحقيقها مثل الدور الثالث لطلاب الجانب الأيمن في الموصل، وإشكالية الاعتراف بالمدارس العراقية في تركيا.

كان ذلك هو البُعد العملي، الذي جاء بنتائج إيجابية مُفرحة جداً، لكن كان هناك ما هو أهم، ألا وهو الجانب والبعد المعنوي من هذا التحدي وهو الهدف الرئيسي؛ إذ كنت أطمح لإيصال رسائل ضمنية معنوية مفادها تشجيع الشباب على ثقافة المبادرة، لتولي زمام الأمور، وأن نقدم نموذجاً بسيطاً لشاب من مجتمع موصلي إصلاحي أصبح نموذجاً حياً يُضرب به المثل لمرحلة العراق ما بعد داعش.

إذن هي ثقافة جديدة، ثقافة تُمهِّد للتأثير والتغيير الذي ينادي به شباب العراق اليوم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد