القدس وقلعة الحزن الأخيرة

سأحزن من أجل القدس لا ابتذالاً، ولكن لأن الحزن سيشعل الغضب يوماً ما، والغضب هو آخر قلاعنا الباقية، فليس من الحكمة أن ندكّها بأيدينا.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/16 الساعة 05:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/16 الساعة 05:35 بتوقيت غرينتش

لا أعرف لماذا نسأل أحياناً أسئلة غريبة، أقل ما يقال إنها ليست منطقية، وأجوبتها تؤذي أكثر مما تفيد. كيف تجرأ ترمب وقام بهذه الخطوة الغبية؟ لا أعرف في الحقيقة لماذا نعتبرها جرأة، فهو لم يضحي بشيء، ولم يخسر شيء بإعلانه هذا، سيكلفه الأمر بضعة آلاف لنقل الموظفين ومتعلقاتهم إلى الموقع الجديد، وربما بعض الاتصالات والاجتماعات وكفى. هل سيكلفه الأمر أكثر من ذلك فيما بعد؟ ربما، ولكن لا علاقة للجرأة بالموضوع. هل نعتقد حقاً أن الولايات المتحدة أقدمت على خطوة كهذه وهي تخاطر بشيء ما؟ هل نصدق حقاً أن "صفقة القرن" لم تكن تتضمن بصورة أو بأخرى تنازلات لا تخطر ببال أحد منّا؟ وأنا عندما أقول لا تخطر ببال أحد لا أعني أننا لحسن ظن لا قدر الله نعتقد أنه من المستحيل أن يقدم العالم على مثل هذه الأفعال، بل لأننا ببساطة ولسذاجة منا اعتقدنا أنهم سيمهدون لنا قليلاً بعَد. إذاً هل ينبغي أن نتساءل لماذا تجرأ ترمب من الأصل؟ والجرأة هي الشجاعة والإقدام والشجاعة والإقدام لا تكون إلا في الحق أو لما يؤدي إليه، أم ما فعله الأخرق فليس يمت للجرأة بصلة. إنما هو استهانة وتواطؤ فقط لا غير.

لم أشغل نفسي كثيراً بالتفكير فيما فعله ترمب، ولا ما سيفعله آخرون، أمضيت يومي أفكر فيما يعنيه هذا لي، للناس، لأهل القدس، لأهل فلسطين، للملايين التي كانت تعيش على الأمل، التي كانت تجلس معلقة على حدّ سكّين، الملايين التي كانت تردد القدس لنا والبيت لنا، والتي تنتظر أن تدخل البيت كما دخلوه أول مرة، ويتبروا ما علوا تتبيرا. تلك الملايين كانت تمني نفسها كلما مر عام، وتقول اقترب، ثم إذا انتهى أسوأ مما بدأ قالت "ما بتشدد إلا تتفرج"، ثم لا تنفرج، وغالب ظني أنهم سيقولون الآن أيضاً: اشتدي أزمنة تنفرجي، قد آذن ليلك بالبَلَجِ. أكاد أرى القلوب تعتصر في الصدور، والدموع المحبوسة في المقل تتفلت منهم، والغصة الواقفة في الحلق تأبى أن تغيب مع بلعة الريق.

لن تتحرك القدس من مكانها، فهي باقية، سيحركون إليها سفارة دولة تبعد عنها قارتين ومحيطاً، لسبب ما يحدد قرارها هذا مصير القدس في المستقبل، لسبب ما سيحدد اختيار مجموع بشري لا يعرف جلّه أين تقع القدس أصلاً مصير مجتمع بشري آخر لا حق له في الاختيار، يعيش فيها وتعيش فيه. يقولون القدس تنتمي لدولة الاحتلال وهي عاصمتها، سينتزعون أهل القدس منها ولكن من ينتزعها منهم؟ تقول رضوى عاشور في إحدى مقالاتها بأن الأندلس بقيت، هناك في مكانها، بقيت ببقاء آثارهم في أزقتها، وطبعات كفوفهم على حجارتها. أسأل: فهل نحزن على القدس؟ على جرى لها وما سيكون؟ هل نحزن حزناً يكفي الماضي والحاضر وما سيأتي؟ وهل فينا من النفس ما يكفي كل هذا الحزن؟ أم أن الحزن ابتذال؟

هل نحزن على القدس أو حتى على مسجدها الكبير، وأرواحٌ في أكناف بيت المقدس تزهق كل يوم، ودماء تراق، وعظام تسحق كما تسحق حجارتها؟ فهل الحزن هنا ابتذال لكل أولئك الذين يموتون؟ لكل الملايين من المقهورين والمعذبين والمحرومين؟ الذي يعيشون ويموتون دون أن يعرفوا حقيقة الحياة، فقد كانت اللقمة هي أسمى أمانيهم، لا شهادة ولا نصر.. فقط لقمة يشغلهم أمرها وأمر عيالهم من بعدهم. فهل الحزن بعد كل هذا ابتذال؟ هل نحن حقاً ورثة القدس وأصحاب الحق فيها أم أننا ورثة الهزيمة والانكسار؟ وماذا سيفعل الحزن لنا ولها وللحق؟

لقد أنفقنا الكثير من عمرنا القصير ونحن نحزن، حزن وراء حزن، ظلمات بعضها فوق بعض، لا أذكر أنني فرحت في حياتي لأمر يخص شعوبنا أو أمتنا، فرحة حقيقية بلا منغصات، لا مسكنات ولا ألعاب سياسية، خلاصاً حقيقياً لا شيّةَ فيه، هل تذكرون أنتم؟ من يذكر أمراً فليبلغني رجاءً. ولدنا ونحن نتلقف الشتات والغربة، بلادنا تعامل بعضها بعضاً كشركات المقاولات، ونحن العبيد الذين يتبادلوننا فيا بينهم، والمستعمر القديم يرانا طفيليات تريد مصّ دمه، لا نجد أنفسنا هنا ولا هناك. هل تبكيكم منقوشة زعتر مثلاً أو أغنية لسبيستون؟ أليس أمراً مثيراً للشفقة؟ سأحكي لكم في مرة أخرى بالتفصيل عن هذه الحادثة، ولكن الخلاصة أننا نبتعد فيقتلنا الحنين إلى أشياء ليست هي الحقيقة، ونقترب فتقتلنا الحقيقة، فأين نذهب؟ أين نهرب من قدرنا هذا؟

أقول لنفسي لماذا الحزن والنكد منذ سمعتي الخبر؟ وكأنها كانت لك حقاً، محرومة أنت من دخولها أصلاً، تشمين رائحتها من بعيد فقط، وربما تذكرت صورتها يوم مرّت بك سيارة أجرة قربها منذ سنوات مضت؟ فلماذا تبكين؟ هل تبكين صورةً رسموها لك؟ أم تبكين حقاً قالوا إنك صاحبته؟ هل تبكين الناس؟ أم تبين الحجارة؟ لماذا كل هذا الغم؟ ماذا سنفعل به؟ هل نحزن حتى نقول حزنا، يا سلام نحن بشر، لقد حزنّا، يا سلام نحن وطنيون، لقد حزنّا، يا سلام نحن أصحاب مبدأ، أمن أجل هذا نحزن؟

ربما أبكي لأن البكاء يترك في الروح وشماً كما تترك إبرة الغجرية؟ ربما لأنني أجد في البكاء علامة ترشدني إلى الطريق؟ ربما أبكي لأنني أريد أن أتذكر بعد سنسن كم أن الأمر مخزًّ، ولا أريد له أن يُنسى، ربما تمنعنا الذكرى من تكراره. ربما أبكي حتى أحكي لابنتي كم بكيت، وكم كان الخذلان مريراً فلا تخذل أحداً ولا تقبل أن يخذلها أحد. ربما أبكي لأن غيري لن يفعل فأعدل كفة الميزان قليلاً. ربما أبكي لأن ترديد عبارات من قبل: القدس عاصمة فلسطين الأبدية، وأننا حتماً سنعود، وأن الله وعدنا بها، تبدو لي أعذاراً للبلادة؟ لا شيء يأتي بلا ثمن، لن تركب القدس ناقة وتعود إلينا، والله له سنن في هذا الكون، المعجزات للأنبياء، وزمن الأنبياء انتهى. ربما أبكي لأن الحياة بلا بكاء مرهقة أكثر، ولأن الألم بلا بكاء يقتُل.

يقول أحمد مطر:
هرم الناس وكانوا يرضعون،
عندما قال المغني عائدون،
يا فلسطين وما زال المغني يتغنى،
وملايين اللـحـون،
في فضاء الجرح تفنى،
واليتامى من يتامى يولدون،
ولقد عاد الأسى للمرة الألف،
فلا عدنا ولاهم يحزنون!

وقد هرِمنا في صبانا، وهرمنا في شبابنا، ومازال المغنون يغنون. كُنّا صغاراً فصدقناهم، كانوا يرددون هي سنوات معدودات، لكل ظالم نهاية، وكنا نصدقهم، نجلس نستمع، نردد، نشاهد، وننتظر. ولكننا كبرنا الآن ولم يعد من الممكن أن نخدع بالآمال الكاذبات، أو لأقُل، بعضنا صار يختار أن ينخدع، بينما بقي آخرون في سكرة الأغنية، أتمنى لو أرى ما يرون، هل هو الأمل؟ أم هو الإنكار؟ أم هي رغبة في الهروب من واجبهم في الحزن؟

سأحزن من أجل القدس لا ابتذالاً، ولكن لأن الحزن سيشعل الغضب يوماً ما، والغضب هو آخر قلاعنا الباقية، فليس من الحكمة أن ندكّها بأيدينا.

هذه التدوينة منشورة على موقع الجزيرة مدونات

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد