ما أعلنه الرئيس الأميركي لم يتوقف عند حدود القدس التي منحها لنتنياهو بكل هذا الصلف والغطرسة، فقد ظهر ترامب يوم الأربعاء 6 ديسمبر/كانون الأول 2017 على شاشات العالم لإشهار وفاة ما سُميت "عملية سلام الشرق الأوسط"، تلك التي انطلقت في مدريد 1991.
كان ترامب واضحاً عندما اتهم الرؤساء السابقين بالتقاعس عن القيام بما أقدم هو عليه، واعتبر استراتيجياتهم فاشلة وعاجزة. استعمل ترامب كلمة "جديد" (New) في خطابه هذا بشكل متكرر، مؤكداً أنه سيفارق ما كانت عليه الإدارات التي سبقته فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والشرق الأوسط. وماذا سيفعل ترامب تحديداً؟
أوحى الرئيس الأميركي أنه سيترك موضوع التفاوض للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ليتدبّرا أمرهما، إن أرادا ذلك، وأنه لن يتدخل لفرض ضغوط من أجل ما يسمى "حل الدولتين"، بمعنى أنه لن يبذل جهوداً لقيام دولة فلسطينية. فعلى الشعب الفلسطيني أن يتفاهم وحده من ثم مع نظام يحتل بلاده ويفرض هيمنة عسكرية عليه، وألا ينتظر إنصاف واشنطن له.
ما أعلنه ترامب، بوضوح، هو نهاية مشروع الدولتين، وهو مشروع قال سيد البيت الأبيض الأرعن إنه سيدعمه فقط إن تمسّك به الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي. وماذا لو لم يتمسّكا به؟ ستكون هناك دولة واحدة فقط تحتل الأخرى، كما هو قائم حالياً.
إنه أسلوب ترامب الخاص في استغفال العالم. فهو يعلم جيداً أن نتنياهو سيحتفل مع فريقه اليميني المتطرف بسقوط مشروع "الدولتين"، وأن القدس هي هدية هذا الحفل المرسلة من واشنطن دي سي مباشرة في صندوق فاخر موشّح بالعَلم الإسرائيلي.
يبدو الموقف قاتماً للغاية في عيون الشعب الفلسطيني، الذي أعاد إلى أذهانه حدثاً أليماً من ذاكرته الجمعية، عندما منح وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور فلسطين للحركة الصهيونية قبل 100 سنة، وتحديداً في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917، لتكون "وطناً قومياً لليهود"، حسب تعبيره.
ويبقى خطاب الأربعاء حدثاً مفصلياً في تاريخ فلسطين والمنطقة ككل. فقد أعلن ترامب موت عملية السلام وأنهى عهد المفاوضات. صحيح أن العملية ماتت أساساً منذ مدة طويلة، لكن العالم لم يجرؤ على البوح بذلك، حتى جاء ترامب فاجترأ وفعلها أخيراً.
طوال ربع قرن، باع قادة أميركا وأوروبا الوهم للشعب الفلسطيني، عندما أكدوا أن المفاوضات ستقود إلى دولة فلسطينية، وأن القدس ستبقى موضوعاً لمفاوضات الحل النهائي. وها هو ترامب يفرض الحل النهائي الآن عبر حسم القدس لصالح سلطة الاحتلال الإسرائيلي، وبإهالة التراب على مشروع الدولتين. هكذا بضربة واحدة!
تعْلم إدارة ترامب خطورة ما أقدم عليه الرئيس، سواء فعل ذلك بموجب رؤية استراتيجية مسبقة أم بدافع مصلحي شخصي لاحتواء مأزقه الداخلي في الرئاسة، أم بكليهما معاً. ولهذا، طالب ترامب الأطراف بـ"ضبط النفس"، وهو تماماً ما يأمله حامل السكين من ضحيته التي يرجو أن تتحلى بالهدوء عندما يهمّ بالإجهاز عليها.
صفع ترامب القادة العرب الذين أوهموا شعوبهم طويلاً بأنّ المفاوضات تحت رعاية أميركية هي الخيار الاستراتيجي الأوحد لتحقيق "الحل العادل والشامل". خرج محمود عباس بعد أن تلقى الصفعة ليتحدث إلى شعبه بوجه خفيض وعين منكسرة.
ولم يجرؤ روّاد "مبادرة السلام العربية" على مخاطبة شعوبهم أساساً بعد الصفعات التي أسداها إليهم ترامب، ومن المرجّح أن بعضهم قد تواطأ معه في ذلك؛ طمعاً في مساعدة أميركية للحفاظ على عروشهم.
إن انسداد أفق التسوية يعني ببساطة، نهاية جدوى السلطة الفلسطينية؛ التي بات عليها أن تأمل فقط تحسين مواصفات حكمها تحت الاحتلال ودون أي استقلال فعلي أو سيادة في نهاية المطاف.
سيكون على السلطة الفلسطينية أن تتصرّف أكثر فأكثر كنظام أمني صارم في خدمة الأسياد الإسرائيليين الذين يستحوذون على معظم الأرض والموارد والمعابر وموارد القوة العسكرية. وعلى السلطة أن تقمع شعبها وتحظر مقاومته وتكبح انتفاضته وتتهاون مع سلب القدس وتفاقُم الاستيطان.
ومن المؤكد أنّ البحث جارٍ عن رئيس فلسطيني يستعد للقيام بهذا الدور الوظيفي بعد الإنهاك الذي ألمّ بمحمود عباس، الذي أخفقت وعوده السياسية جميعاً في إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وعاصمتها القدس عبر المفاوضات.
وتجري في ظلال ذلك لعبة الابتزاز المتكررة للسلطة الفلسطينية، بالتلويح بتقليص الأموال الأميركية الممنوحة لها. على رام الله أن ترضخ إذن؛ أو أن تتألّم أكثر فأكثر إنْ رفضت الانصياع للمفهوم "الجديد" الذي يحمله ترامب.
لكنّ النداءات تعلو في الساحة الفلسطينية لقلب الطاولة على المقامرين جميعاً. وأيسر الطرق هو إقدام قيادة السلطة على الاستقالة الجماعية وإحداث فراغ قيادي مفاجئ، حتى دون اشتراط حل السلطة بالكامل. سيرى العالم وقتها كيف أنّ ترامب المتهور قد دفع الأوضاع إلى شفير الهاوية، وسيكون على البيت الأبيض، من ثم، أن يتحمل عواقب فعله الجسيم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.