القدس والرياض هما قُطبا أمّتِنا

نعم، صحيح، وكما يقول الهاشتاغ، فالقدس ليست أهم من الرياض بالنسبة لنا، وكيف تكون القدس أهمّ من الحجاز وفيها مرقد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، والصحب الكرام رضي الله عنهم، وهي مركز الثقل الإسلامي؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/10 الساعة 03:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/10 الساعة 03:47 بتوقيت غرينتش

عباراتٌ ما أنزل الله بها من سلطان، لا غايةَ لها سوى إقحام المنطقة نحو مزيدٍ من التفرقة والتشرذم، وكأننا عُدنا حَمَلةً لراياتِ البَسوس وداحس والغبراء، أو عُدنا دعاةً لحرب الفجَار الجديدة، أو ربّما جُرنا على أنفسنا وضمائرنا كي نستعيد رائحة عِطر مَنْشَم، الذي كانت نساء الجاهليّة تتقاذفُه في الطرقات، عند اشتعال الفتن والحروب؛ إيذاناً منهنّ لبدء الصراع والتفاني في الاقتتال..

كنا نقرأ عن أدب الثأر في الجاهليّة حينما خِلْناه ماضياً لا عودةَ له على الإطلاق، وإذ به يغدو أدباً حديثاً معاصراً، نَقتاتهُ في قرطاس اليوم الذي بُلّ بدماءِ الإخوة بعضهم بعضاً، كيف لا وكلمات الشاعر الجاهلي أبي أذينة اللخمي في دعوته أبناء عمومه إلى الثأر ومتابعة الاقتتال، تدوّي في أزقّتنا من جديد ولم تندثر بعد، أو كأنها استعادت عافيتها بفضل ألسنة البعض الذين حشدوا وحشّدوا، وضلّوا وأضلّوا عندما تنادَوا إلى الثأر، لسانُ حالِهم تماماً كلسانِ حالِ الشاعر الجاهلي أبي أذينة الذي راح ينادي في قبيلته طالباً للثأر من قبيلةٍ أخرى كان أفرادها قد استقووا عليهم فيما مضى، فراح أبو أذينة ينادي في القوم محرّضاً:

وليس يظلمهم مَن راح يضربهـــــــم
بِحَدّ سيفٍ بهِ مِن قبلهم ضُرِبــــــــا

قتلتَ عمراً وتستبقي يزيدَ! لقــــــــد
رأيتَ رأياً يجرّ الويلَ والحَربـــَــا

لا تقطعَنْ ذنبَ الأفعى وتُرسِلهــــــــا
إنْ كُنتَ شهماً فَأَتبِعْ رأسَها الذّنَبـــَـا

هم جرّدوا السيفَ فاجعلهم له جزراً
وأوقدوا النّارَ فاجعلهم لها حطَبـــــا

علامَ تقبلُ منهم فديةً وهمُ
لا فضّةً قبِلوا منّا ولا ذَهِبا

فأنْ تصل شعوبُنا العربية المسكينة لدرجة التناحر على وسائل التواصل الاجتماعي، لا يبشّر بالخير على الإطلاق، فيتفاعل الكثيرون مع هاشتاغ "الرياض أهم من القدس"، ثمّ يطلّ علينا شخصٌ تارةً مضطجعاً، وتارةً متنزّهاً، وأحياناً ممتشقاً نظّارته، وأحياناً أخرى سافر العينين، وكأنه يريد أن يقول لنا إنه مُنعَمٌ ومُترَفٌ ولديه ما يكفيه من الوقت، ليقذف الشعب الفلسطيني بأسوأ العبارات، وينعته بصفاتٍ لا تليقُ بالبشرية، ثمّ يردّ عليه فلانٌ وفلانٌ من الطرف الآخر، مستخدماً الشتائم ذاتها، واللسان ذاته، ويمسّ شعبَ الحجاز الطيّب المعطاء بالسوء والقدح، ليتحوّل المشهد إلى مسرحيّة هزليّة، جمهورُها هم أعداؤنا الذين كانوا هم المستفيدين الوحيدين من هذه الإبداعات في الشتائم والعِدَاء..

أليست إسرائيل هي المستفيد الأوّل من هذا التراشق الكلامي؟ ألا يعيش الصهاينة اليوم أجمل اللحظات، بعدما رأوا بأمّ أعينهم، شعوبَ القِبلتَين يتفانون في اللّعان والطّعان؟ ألا يُعتَقد أنّ إسرائيل هي من يقف وراء هذه الأحداث المتسارعة في المنطقة، والتي لا تصبّ إلّا في مصلحتها ومصلحتها فقط؟

بلى، إنها الاستراتيجية الصهيونية الجديدة التي تقوم على مبدأ التفتيت، وتجزيء المجزّأ، فبعدما كنا نعيش رغد الصراع العربي-الإسرائيلي، أبت إسرائيل إلا أن تحرف بوصلة الصراع عنها، وصبّت جُلّ إمكاناتها في المنطقة كي تسحب عداء الشعوب العربية لها، من خلال اختلاق أعداء جدد لهم في المنطقة، فاختلقت الصراع السنّي-الشيعي، والصراع العربي-العربي، واليوم تنجح في خلق الصراع حتى ضمن الطائفة الواحدة.

نعم، صحيح، وكما يقول الهاشتاغ، فالقدس ليست أهم من الرياض بالنسبة لنا، وكيف تكون القدس أهمّ من الحجاز وفيها مرقد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، والصحب الكرام رضي الله عنهم، وهي مركز الثقل الإسلامي؟

مخطئٌ من يحتسب أنّ الشعب الفلسطيني يمكن أن يفرّط في الرياض، حتى لو كان هذا التفريط هو سبيله الوحيد لتحرير فلسطين، فنحن أبناء لغة الضاد التي تجمعنا، وزملاء المحراب الواحد، حتى لو حاول الحكّام شقّ الصف، والعودة بالشعوب إلى دائرة الاختلاف التي لا ثبات فيها على الحقّ..

نعم وألف نعم.. الحجاز والقدس هما قُطبَا أمّتنا، وكفّتاها اللّتان تتناوبان في مواضع العزّة والرفعة، إنِ اضطرّت إحداهما إلى الانخفاض القسري، علت الأخرى من الجهة المقابلة ليبقى شيءٌ -ولو يسيراً- في منابر السموّ والشموخ، وكيف لأمّتنا أن تنهض من دون الحجاز العزيز، أو من دون القدس الشريف؟ فلا كرامة لأمتنا إلا من البوابة المقدسيّة الحجازيّة، التي ستفتح أبوابها رغم أنوف السلاطين؛ كي يتعانق الإخوة بعد خلافٍ مرير، فالصلح لا يكون صُلباً إلا إذا احتدم الخلاف فيما بين الإخوة.

لن نسمح لأعدائنا بتمرير هذا المشروع اللعين، والذي يهدف إلى دكّ إسفين النزاع بين الأشقاء الفلسطينيين وأهل الحجاز، بذريعة التطبيع، ولن يُرضيَنا استمرار هذا التراشق الفظيع، الذي يهدف إلى سحب البساط الأخير من تحت أقدامنا دون أن نشعر؛ لأنّ هذا الخلاف لو استمر، فربّما تخرج الأمور عن السيطرة، وتتطور لتشمل رجال الدين، أو ربما المواجهة المباشرة، فتجد عندها أنّ إسرائيل بِخُبثها تدعم طرفاً على حساب طرف؛ من أجل تأجيج الصراع كعادتِها، والخروج بصيغةٍ ماكرة، تخلص إلى تخوين أحد الأطراف بسبب علاقته المباشرة مع إسرائيل؛ كي يكون هذا التخوين حجّةً قوية للطرف الآخر للانقضاض على زميله في العقيدة، ورفيقه في المرام، بينما تعيش إسرائيل سعادتها الدائمة على حساب الشعوب التي فقدت لواءها ووحدتها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد