رغم أنني لست من المؤمنين بتسليم الأمور إلى الأقدار؛ لكي تتكفل بها، لكنني مع ذلك على قدر من اليقين بأن حبل الكذب قصير مهما طال به الزمن، ولا بد أن يفتضح أمر المحتالين في يوم ما.
هذا التقديم يأتي بمناسبة صدور قرار من المحكمة العسكرية العراقية بتاريخ 10/ 10/ 2017 يقضي بإعدام قائد عمليات نينوى الأسبق مهدي الغرّاوي (الهارب خارج العراق)، قائد عمليات نينوى الأسبق، رمياً بالرصاص بسبب تخاذله وعدم دفاعه عن محافظة نينوى، حسب قرار المحكمة، وبالتالي سقوطها تحت سلطة تنظيم داعش في 10 يونيو/حزيران 2017.
وبسبب ذلك السقوط المريع وقع دمار هائل شمل مدن الأنبار وصلاح الدين وديالى والحويجة، نتيجة العمليات العسكرية التي قامت بها القوات العراقية فيما بعد لإخراج الإرهابيين منها.
إذ تشير التقارير الدولية إلى سقوط أكثر من 200 ألف مدني بين قتيل وجريح، وتعرّض ما يقرب من 6 ملايين مدني إلى النزوح من بيوتهم ونحو مليون ونصف المليون هاجروا خارج العراق، واختطاف ما يزيد على 4 آلاف مدني من قِبَل ميليشيات كانت تقاتل إلى جانب القوات العراقية الرسمية، وتكبّدت العراق خسائر بلغت نحو 100 مليار دولار، إضافة إلى عمليات تغيير ديموغرافي طائفي ممنهجة شملت عدة مدن عراقية.
منذ أكثر من أربعة عشر عاماً على تغيير النظام السياسي في العراق بإرادة أميركية يصدر قرار عادل بحق مسؤول رسمي ارتكب جرماً بحق المجتمع (مع أن مؤسسات الدولة العراقية قد طفحت بالفاسدين والمجرمين)، كان من المفروض أن يصدر مثل هذا القرار بعد سقوط الموصل مباشرة، فالقائد العسكري الذي يتخاذل ويهرب من ساحة المعركة ويفتح أبواب المدن للعدو، لا بد أن ينال ما يستحقه من عقوبة تتساوى مع الجرم الذي ارتكبه، طالما أن هروبه دفع ثمنه الباهظ ملايين البشر، ونتج عنه تفاعلات سياسية ومجتمعية وجغرافية باتت تشكل قضايا معقدة تقف في طريق استقرار البلاد ربما تمتد إلى عشرات السنين.
أن تكون ضابطاً عسكرياً يعني أنك مسؤول عن أرواح وممتلكات الناس وعن شرفهم؛ إذ ليس بإمكان أي شخص أن يتحمَّل مثل هذه المسؤولية بمجرد أن يضع النجمات على كتفه.
لكن بات من السهل أن توضع النجمات على أكتاف أي شخص في بلد شاع فيه الضبّاط الدَّمِج (الدَّمِج: مصطلح شاع تداوله على ألسنة العراقيين بعد عام 2003 يشير إلى الأشخاص الذين أصبحوا بين ليلة وضحاها ضباطاً في الجيش العراقي، مع أنهم لا يحملون أية مؤهلات دراسية والكثير منهم بالكاد يقرأ ويكتب، إلا أن انتماءهم المذهبي منحهم صك الاندماج بين صفوف الجيش بصفة ضباط وبرتبة عالية حسب موقعهم في الميليشيات التي جاءوا منها، وقد بلغ عدد الميليشيات حسب تقديرات المراقبين أكثر من 60 فصيلا).
هناك العشرات من الضباط اليوم لا يستحقون إلا أن يكونوا معتقلين في السجون؛ لأن عليهم الكثير من الشبهات التي تدينهم، ويمكن الإشارة هنا إلى واحد من هؤلاء واسمه (هاشم) ويحمل رتبة مقدم في الجيش، كان قد اكتسب شهرةً كبيرةً على مواقع التواصل الاجتماعي وموقع اليوتيوب إلا أنها شهرة اتسمت بالسخرية منه والاستهزاء بما كان يقوم به من مشاهد تمثيلية مفبركة جاءت على شكل مقاطع فيديو حرص هو شخصياً على نشرها في موقع اليوتيوب أيّام اشتداد القتال لتحرير مدينة الموصل في مطلع العام 2017؛ حيث يظهر فيها وهو يقود معارك وهميّة ضد تنظيم داعش بين أزقة المدينة في محاولة منه للعب دور البطل وخداع الناس بانتصارات وهمية، إلا أن سذاجته الشخصية وسطحية المشاهد التي تولى إخراجها مع عدد من جنوده لم تنطلِ على العراقيين، فأصبح نموذجاً للضباط (الدَّمِج) (يمكن الوصول إلى فيديوهات مقدم هاشم والاطلاع عليها في موقع اليوتيوب).
الغرّواي ورغم أنه هارب خارج العراق فقد نال اليوم ما يستحقه من مكانة غير مشرّفة تليق بمتخاذل لم يحافظ على الأمانة التي أوكلت إليه، ووضعه قرار المحكمة العسكرية في مكان لائق يستحقه هو وأمثاله نتيجة ما ارتكبوه من جرائم بحق آلاف العراقيين الذين زُهقت أرواحهم في الموصل وفي بقية مدن العراق من نساء وأطفال وشباب.
ويأتي القرار أيضاً بمثابة صفعة قويّة على أفواه كل الذين حمّلوا المدنيين العُزَّل في الموصل مسؤولية سقوط المدينة من بعد أن اتهموهم بالخيانة والتواطؤ مع الإرهابيين، انطلاقاً من دوافع طائفية وعنصرية، وتنفيذاً لأجندات مشبوهة خارجية قادتها منظمات دولية تسترت خلف برقع منظمات المجتمع المدني التي انتشرت مثل الطحالب في العراق بعد الاحتلال الأميركي، وكانت تهدف من وراء ذلك إلى تفكيك العلاقات الاجتماعية التاريخية ما بين مكونات المجتمع العراقي والدفع بها إلى هوّة التخندق الإثني والطائفي.
ومن هنا تأتي أهمية هذا القرار ليضع النقاط على الحروف عندما حمّل مسؤولية السقوط قوات الجيش العراقي التي كانت تتألف من أربع فرق عسكرية، إضافة إلى جهاز مكافحة الإرهاب وقوات الشرطة الاتحادية، وقوام كل هذه التشكيلات يصل إلى حدود (70) ألف مقاتل كانوا يتواجدون في المدينة، ومن المؤكد يتحمل المسؤولية الكبرى القائد العام للقوات المسلحة آنذاك نوري المالكي ومعه بقية القادة العسكريين الذين كانوا يتولون إدارة القطعات العسكرية، مثل قائد القوات البرية الأسبق علي غيدان، ومعاون رئيس أركان الجيش الأسبق عبود قنبر، واللواء فاروق الأعرجي مدير مكتب المالكي، وسبق أن أشار تقرير اللجنة التحقيقية التي شكّلها البرلمان العراقي بعد ثلاثة أشهر على سقوط الموصل لتقصي الحقائق حول الأسباب التي أدت للسقوط، إلى هؤلاء القادة العسكريين وحمّلهم مسؤولية ما جرى من الناحية العسكرية والأمنية، إضافة إلى 35 مسؤولاً حكومياً يتولون مناصب ومسؤوليات إدارية مدنية في المحافظات التي سقطت تحت سلطة تنظيم (داعش).
هل نستطيع التكهن بأن الحساب قد بدأ مع الذين سهلوا لتنظيم (داعش) التحرك والتمدد، وبالتالي سقوط المدن في قبضته؟
هل بدأت الحرب على شبكات الفساد التي تديرها الأحزاب والزعامات السياسية والعسكرية التي خطفت الدولة العراقية وأشاعت الفوضى والخراب لصالح تكديس الثروات العامة في أرصدتها الشخصية؟
ولكن.. هل يكفي هذا القرار لكي نثق بنوايا رئيس الوزراء حيدر العبادي حول محاسبة كل مَن تسبب بخراب البلاد، خاصة أنه يتزامن مع الأخبار التي تشير إلى وصول لجنة تحقيقية أممية مؤلفة من 12 محققاً دولياً بإشراف ورعاية الأمم المتحدة للكشف عن مصير مبلغ من المال قيمته 360 مليار دولار، إضافة إلى 850 مليار دولار هي مجموع ميزانيات الحكومة العراقية كلها، اختفت خلال فترة حكم المالكي، ولا يوجد ما يشير إلى أنها قد تم صرفها على مشاريع حقيقية ملموسة.
من المؤكد أن قرار إعدام الجنرال مهدي صبيح الغرّاوي وسط هذه الأجواء سيجعل الأرامل والأيتام والنازحين يشعرون بأن العدالة قد أنصفتهم إلى حد ما، إلا أن فرحتهم لن تكتمل إلا بعد أن ينال بقية المسؤولين عن جريمة سقوط الموصل عقابهم، ولو أن كل مسؤول فاسد ومنحرف منذ عام 2003 نال عقابه القانوني كما نال الغرّاوي لما وصل حال العراق إلى ما هو عليه اليوم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.