مستقبل الدولة العراقية يقرره قادة الميليشيات

نحن على موعد جديد في الأيام القادمة؛ حيث سنشهد معركة سياسية ربما أشد سخونة وضراوةً من التي كانت ضد داعش، طرفاها الدولة العراقية والميليشيات، وعلى أساسها سيتقرر مستقبل الحياة على الأرض العراقية إما أنها ستميل إلى الاستقرار أو ستدخل في نفق معتم.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/22 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/22 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش

الحرب من الناحية العسكرية ضد تنظيم داعش في العراق أوشكت على نهايتها، وما هي إلا ساعات وتصمت المدافع؛ ليسود الهدوء الأرض التي شهدت مذابح وكوارث وقعت على آلاف المدنيين، إضافة إلى ما سقط من ضحايا بين صفوف القوات المسلحة العراقية.

المعركة كانت مهلكة وطويلة، ولم تبدأ نقطة شروعها مع بدء عمليات تحرير الموصل في 17 من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2016، بل بدأت مع سقوط النظام السابق عام 2003، فالجماعات المسلحة الإسلاموية المتطرفة كانت قد بدأت تنشط منذ العام الأول لسقوط النظام السابق، وكان الضحايا يسقطون يومياً في معظم مدن العراق، بما في ذلك مدن إقليم كردستان العراق التي لم تسلم هي الأخرى من العمليات الإرهابية إلى جانب العاصمة العراقية بغداد، رغم تمتعها بقدر كبير من الاستقرار الأمني.

وبحسب بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق "يونامي"، بلغت الحصيلة الإجمالية للقتلى من العراقيين منذ بداية الاحتلال الأميركي عام 2003 وحتى شهر يونيو/حزيران 2016 أرقاماً عالية تكفي لأن تُدخل بغداد موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية؛ إذ وصل العدد إلى (359549) قتيلاً.

ولم يقتصر الإرهاب على تنظيمي القاعدة ودولة الخلافة (داعش) فقط، بل شمل أيضاً الميليشيات الطائفية (الشيعية) التي ارتكبت هي الأخرى جرائم وانتهاكات كثيرة بحق المدنيين، وما يميزها عنهما أنها تستمد قوتها من القوى السياسية الطائفية التي تتحكم بالقرار السياسي في بغداد، بل إنها باتت تتنافس معها على تقاسم النفوذ في الشارع، وأصبح من الصعب على السلطة الرسمية أن تتواجه معها وتوقفها عند حد معين من تمدّدها.

هذا الماراثون الطويل من العنف الذي شهده العراق لأكثر من 14 عاماً كلف الدولة الكثير من الأموال التي ذهبت هدراً، بدل أن يتم استثمارها لصالح بناء مستقبل جديد للعراقيين إلى جانب ما خسره المواطن من مستقبله، خاصة في مدن معينة كانت مرتعاً لنشاط الجماعات الإرهابية، مثل الأنبار وصلاح الدين والموصل، فهذه المدن عادت بها الأحوال مائة عام إلى الوراء نتيجة لسيطرة تنظيمي القاعدة وداعش عليها، وما ترتب على ذلك من عمليات عسكرية من قِبل الجيش العراقي لطردها منها كانت قد ابتدأت في منتصف شهر يوليو/تموز 2015، واستمرت المعركة في هذه المدن الثلاث حتى منتصف هذا الشهر نوفمبر/تشرين الثاني 2017 عندما أعلن الجيش العراقي عن تحرير مدينة راوة التابعة لمحافظة الأنبار من سلطة تنظيم داعش.

كانت نتيجة هذه الحرب أن تلاشت تماماً بنية الدولة في هذه المحافظات الثلاث، وأصبحت أنقاضاً، فلم يعد هنالك من شبكات ماء صالحة للشرب ولا شبكة مجاري للصرف الصحي ولا مؤسسات مصرفية ولا دوائر خدمية ولا تعليم ولا صحة، ويكفي أن نسبة تدمير البنية التحتية في مركز مدينة الموصل وصلت إلى 80%، وحسب تصريح منسوب إلى نائب رئيس مجلس محافظة نينوى (نور الدين قبلان) لإحدى الوكالات، إذ يقول: إن "الموصل تحتاج في أقل تقدير إلى 8 مليارات دولار لإعادة الحياة إلى البنى التحتية والخدمات الأساسية، تُضاف إليها الأضرار التي لحقت بالمباني ودور المدنيين التي تحتاج لصرف تعويضات لأصحابها لغرض الشروع بإعمارها".

وبهذا الخصوص تشير تقارير المنظمات الدولية إلى أن هذه المحافظات تحتاج إلى ما لا يقل عن عشرة أعوام من العمل الدؤوب حتى تعود إلى حالتها الطبيعية.

ومن جانبها أعلنت وزارة التخطيط العراقية أن حجم المبالغ المطلوبة لإعادة إعمار المناطق المحررة يُقدر بنحو 100 مليار دولار، مشيرة إلى أن خطة إعادة الاستقرار ستكون على مدى 10 أعوام، إلا أن هذه الجهود ستصطدم بشبكة هائلة من الفساد المستشري في كافة أجهزة ومؤسسات الدولة؛ لذا سيكون من الصعب تصور إمكانية إعادة الإعمار وعودة الأوضاع إلى طبيعتها.

صحيح أن الحرب العسكرية ضد تنظيم (داعش) في العراق أوشكت على الانتهاء، إلاّ أن الحرب مع الجماعات الميليشياوية ابتدأت الآن، وإشارة البدء كانت مع قرار الكونغرس الأميركي الأخير الذي صدر في منتصف شهر نوفمبر الحالي الذي اعتبر وبموجبه ميليشيا (النُّجباء) تنظيماً إرهابياً، ومنح القرار الحكومة العراقية مهلة 90 يوماً؛ لكي تنهي وجود هذا الفصيل، وبعدها ستتخذ الإدارة الأميركية عدة إجراءات بحق هذا التنظيم الذي تمتد أذرعه إلى سوريا؛ حيث إنها قاتلت عناصره إلى جانب نظام الأسد حسب ما جاء على لسان المُعمم (أكرم الكعبي) زعيم هذه الميليشيا، وفي أكثر من مناسبة، ولا يُخفي الكعبي حقيقة ارتباطه بالحرس الثوري الإيراني ومهامه في منطقة الشرق الأوسط.

ربما ستضع إجراءات الإدارة الأميركية وعقوباتها بعد انتهاء مهلة الـ90 يوماً الحكومة العراقية في موقف لا تُحسد عليه، ولا أحد يمكنه التكهن بطبيعة الإجراءات التي ستتخذها، وإلى أي مدى ستذهب في نتائجها؟ وهل ستكون لها عواقب وخيمة على الحكومة العراقية في حالة عدم استجابتها؟

حتى الآن لم تفصح الحكومة العراقية عن موقف واضح إزاء هذا الموضوع، وعلى ما يبدو فإنها قد سقطت في مأزق ليس من السهولة الخروج منه.

إن هذا القرار يمكن اعتباره بداية الاختبار ما بين الإدارة الأميركية والحكومة العراقية من جهة وما بين الميليشيات والحكومة العراقية من جهة أخرى، فإدارة ترامب وضعت الكرة في ملعب حكومة العبادي؛ لتقيس مدى جديتها وقدرتها على أن تكون شريكة مع الأميركان في محاربة الجماعات الإرهابية على الأقل من وجهة نظرها، ولكي تثبت بغداد حسن نيتها أمام الإدارة الأميركية في قضية مواجهة الإرهاب المسلح مهما كانت العناوين التي يحملها، ومهما كان بُعده أو قربه منها من الناحية المذهبية، خاصة أن الأميركان قد لعبوا دوراً كبيراً جداً في دعم بغداد في حربها ضد داعش، ولولا فاعلية الطيران الأميركي إضافة إلى وجود أكثر من أربعة آلاف عسكري أميركي يعملون بصفة مستشار للجيش العراقي لما تمكنت بغداد من حسم المعركة لصالحها.

لا شك أن هذا الاختبار سيكون أصعب بكثير من الاختبار الذي واجهته بغداد في حربها ضد تنظيم داعش؛ لأنه يفرض عليها أن تثبت لنفسها أولاً أنها تملك القدرة على أن تواجه نفسها بنفسها، وعلى أن تنتقد وتحاسب نفسها وتتخذ قرارات جريئة داخلية من أجل أن تتعافى وتتصالح مع ذاتها بعد أن نجحت في المواجهة مع أعدائها الآخرين، وفي مقدمتهم تنظيم داعش الإرهابي، فهل المسؤولون العراقيون على هذا القدر من المسؤولية بالشكل الذي يحرصون فيه على بقاء الدولة العراقية؟ أم أنهم لا يمتلكون من الشجاعة ما يكفي لمواجهة أنفسهم والتخلي عن ماضيهم الطويل الذي ارتبطوا فيه بتنظيمات حزبية كانت وما زالت تُشرعن الوجود الميليشياوي وتمنحه في بعض الأحيان صفة القداسة بالشكل الذي لا تسمح لأي نقد يوجه إليه حتى فيما إذا انتهك القانون واعتدى على الحريات المدنية للمواطنين وتجاوز على حرماتهم ومارس عمليات الخطف والابتزاز والتهديد.

الحكومة العراقية اليوم تمر بلحظة حرجة تضعها في حالة من التحدي الكبير لنفسها، تحدّ يفرض عليها أن تتخلى عن جلدها الذي حافظت عليه طيلة الأعوام الماضية، فالميليشيات كانت صمام أمان لكافة القوى المهيمنة على المشهد السياسي في بغداد، ولم يعد خافياً أن أموالاً طائلة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات كانت قد صُرفت من أجل تأسيس وتوسيع وتسليح هذه الميليشيات خاصة في فترة حكم المالكي التي استمرت لثمانية أعوام (2006 – 2014)، ودائماً ما يطرح سؤال من قِبل المراقبين للأوضاع في العراق عن مصير (800) مليار دولار هي ميزانية الحكومات العراقية خلال فترة حكم المالكي، أين اختفت؟ وفي أي اتجاه تم صرفها؟ خاصة أنها لم تتحول إلى مشاريع خدمية وتنموية وعمرانية في عموم محافظات العراق.

وعلى ما يبدو فإن الجزء الأكبر من هذا المبلغ قد ذهب ناحية تأسيس هذه الميليشيات حسب اعتراف المالكي شخصياً وفي أكثر من مناسبة، مؤكداً أنه كان وراء تأسيسها، والتي تحولت فيما بعد إلى تسمية (الحشد الشعبي) مِن بعد أن أًضيف إلى صفوفها متطوعون يعدون بالمئات استجابوا لدعوة مرجعية النجف بعد سقوط مدن الموصل وصلاح الدين والأنبار والحويجة في مطلع شهر يونيو/حزيران عام 2014، واقتراب عناصر تنظيم داعش من حدود العاصمة بغداد بمسافة لا تبعد عنها سوى 150 كم.

اليوم وبعد انهيار تنظيم داعش عسكرياً سيكون أمام السلطة في بغداد، وخاصة القوى التي تمسك بالقرار، أن تواجه مستقبلها ومستقبل علاقاتها مع أميركا والغرب؛ لأن المعركة ستكون مع الوجود الميليشياوي الذي يشكل الوجه المذهبي الآخر من الحرب مع القوى الإسلاموية المتطرفة التي تتسبب في تهديد الأمن والسلم الدوليين، وليس بعيداً عنّا ما يشهده لبنان من مأزق سياسي بعد إعلان رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته في مطلع شهر نوفمبر الحالي احتجاجاً على سياسات حزب الله، ومنهجه في توريط لبنان بحروب وصراعات إقليمية هو في غِنى عنها حسب تصريح الحريري، ولن يجني منها أية فائدة بل ستُلحق به ضرراً كبيراً بعد أن ثبت بعديد من الأدلة تورط حزب الله في الحرب السورية وفي الحرب الدائرة باليمن.

إن العلاقة ما بين قرار الكونغرس القاضي باعتبار عدد من الميليشيات العراقية واللبنانية منظمات إرهابية، ومنها حزب الله وحركة النُّجباء وما بين توقيت إعلان استقالة سعد الحريري هي علاقة مترابطة وتشكل منظومة واحدة في رؤية الأميركان، ومن المنطقي جداً أن يتمخض عن هذا المخاض الذي تديره الدوائر الأميركية تقليم أظافر الميليشيات التي تتلقى الدعم من إيران.

وما يعنينا في هذا الموضوع الذي يحمل الكثير من الأسرار والأبعاد في إطار الصراع الدولي على منطقة الشرق الأوسط هو العراق، فالسؤال الذي يطرح بهذا الخصوص: كيف سيخرج الساسة العراقيون من هذا المأزق؟ هل سينقلبون على أنفسهم ويقطعون صلتهم مع الميليشيات أم سيسقطون في الامتحان عندما لا يقرأون الرسالة الأميركية بشكل جيد؟

ربما صعوبة الأمر تكمن في أن البرلمان العراقي قد ربط ميزانية الميليشيات بميزانية الدولة؟ فهل ستتجرأ الحكومة العراقية على إنهاء الوجود الميليشياوي وتحويل كافة العناصر التي تنتمي إليه إلى القوات النظامية في الجيش العراقي وبقية المؤسسات العسكرية والأمنية أم ستخضع لسلطة الميليشيات مما يعني الحكم على مصير الدولة العراقية بالاضمحلال والتماهي داخل الجسد الميليشياوي؟

ما ينبغي الإشارة إليه أن الحكومة العراقية بقيادة التحالف الوطني (الشيعي)، قد منحت فصائل الحشد وبقية الميليشيات من الإمكانات والامتيازات ما جعلها تمتلك قدرات اقتصادية تمكنها من الوقوف على أقدامها ومنافسة الدولة اقتصادياً، فقد منحتها أراضي وفرص استثمار في الكثير من القطاعات المصرفية والعقارية والزراعية بالشكل الذي يجعلها قادرة على أن تمول نفسها، بمعنى أنها أصبحت دولة داخل جسد الدولة، بل دولة تنازع سلطة الدولة، ولن تتردد في سحق الدولة إذا ما تعرضت لتهديد في وجودها.

وهذا الحال صورة مستنسخة عن حقيقة الحرس الثوري داخل جمهورية إيران الإسلامية، الذي يمتلك من المشاريع الاقتصادية ما يجعله يتحكم بشرايين الاقتصاد الإيراني.

نحن على موعد جديد في الأيام القادمة؛ حيث سنشهد معركة سياسية ربما أشد سخونة وضراوةً من التي كانت ضد داعش، طرفاها الدولة العراقية والميليشيات، وعلى أساسها سيتقرر مستقبل الحياة على الأرض العراقية إما أنها ستميل إلى الاستقرار أو ستدخل في نفق معتم.

سننتظر ردود فعل الزعامات التي تقود هذه الفصائل المسلحة، وسنرى إن كانت سترتفع وتيرة تصريحاتهم ضد الولايات المتحدة الأميركية التي وقفت إلى جانبهم في الحرب ضد داعش، حتى لو أدى ذلك إلى تخريب العلاقة ما بين بغداد والأميركان؟ أم سيكونون على قدر عالٍ من المسؤولية الوطنية بالشكل الذي سيحرصون على سلامة الدولة العراقية؟

الاحتمالات تبقى مفتوحة، وما من شيء حتى الآن يبدو واضحاً، سواء من قِبَل الحكومة العراقية أو من قِبَل الميليشيات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد