بعد أن صدَّع رؤوسَنا جنودُ الخلافة الفارُّون من دولهم التي يحكمون عليها بأنها دار كفر من منظورهم الفاسد، وقد عملوا على مدار أعوام عديدة على هذه الفكرة، وبعد سيطرتهم على مدن عديدة في بلدان متفرقة من العالم- أصبح حديثهم عن وجوب الهجرة لدار الإسلام بزعمهم وترك بلدان الكفر.
بل جعلوا الهجرة إلى المدن التي يحكمونها بطغيانهم وهمجيتهم واجباً شرعياً، وأن الخروج من المدن التي يسيطرون عليها كفرٌ تصل عقوبة مقترف هذا الشيء للقتل، وفي كل خطبهم وإعلامهم يحثون الشباب على الهجرة إلى دولتهم المزعومة، الدولة الظالمة التي قدمت نموذجاً سيئاً عن حكم المسلمين، نموذج للدولة البوليسية باسم الإسلام.
وبعد أن انتهت حكايتهم مع هذه المدن التي سموها دار إسلام بزعمهم؛ لأن رايتهم قد رُفعت عليها كما يتوهمون هم ذلك، بدأ جنود الخلافة يتسربون من دار الإسلام بزعمهم إلى دور الكفر، وقد سمعنا عن المئات الذين هربوا إلى أوروبا ودول متعددة، فبعد أن كان جنود الخلافة يتمشون في أزقة الموصل والرقة ودير الزور وسرت، أصبح جنود الخلافة يتمشون ويتسكعون في أزقة أوروبا!
وكي لا نبعد عن صلب الفكرة التي نتكلم عنها، أود الحديث بشكل موجز عن فكرة دار الإسلام ودار الكفر، المصطلح الذي جعلنا نقسم البلدان على هذا الاعتبار بأن نطلق دار إسلام على البلد الذي يقام فيه الشرع كما تعلمنا سابقاً وكما كان ينشر داعش أفكاره، ودار الكفر التي لا يقام فيها الشرع. وبناء على هذا المصطلح، تكون معظم دولنا التي يقطنها غالبية مسلمة هم كفار وفق هذه الفكرة.
ولكي نزيل اللبس، فإن هذا المفهوم غير منضبط وقد جرّ الويلاتِ على أمتِنا، فما عدنا نفرق بين دار إسلام أو دار كفر، ونحن نعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر الصحابة بأن يهاجروا إلى الحبشة، ومعلوم أن الحبشة كان ملكها نصرانياً، لكنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد"، فمعيار البلد الذي أرسل له الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن معيار إسلام أو كفر، وإنما معيار العدل والأمن وعدم الظلم، فالهجرة إلى دار الحبشة بسبب عدل حكومتها وليس إسلاميتها.
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- في كلام رائع، إلى أن الدار باعتبار الأمن والخوف وليس الإسلام أو الكفر، وهذا نص قوله: إن المقصود من إضافة الدار إلى الإسلام والكفر ليس هو عين الإسلام والكفر، وإنما المقصود هو الأمن والخوف، وأن عداوة الكفر ليس لكفره وإنما لظلمه وتعديه؛ لأن أصل ديننا (لا إكراه في الدين)، (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)، فالحرب على الكافرين هي لرد العدوان والاعتداء والظلم وليس بسبب الكفر أو الاعتقاد.
ولعل الدولة المزعومة تحت مصطلح "دولة الخلافة" الذي يحتاج إلى مراجعة قوية، فضلاً أنه ليس ركناً من أركان الإسلام ولا الإيمان، ولكن -للأسف- أصبح هو محور العمل وسالت لأجله دماء شباب غُرِر بهم وبعقولهم، بينما نحن نعلم أن شكل الدولة التي أقامها الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتي كان يقيم فيها المسلمون واليهود والنصارى والمنافقون وفق وثيقة المدينة التي تعد مصدراً قانونياً قديماً، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- جعل من وثيقة المدينة (العقد الاجتماعي) هي محور الفصل بين أبناء المدينة وليس التميز الديني أو العقدي.
إن أهل هذه الصحيفة، من المسلمين واليهود، بينهم النصر على مَن حاربهم، وعلى مَن دهم يثرب (هاجمها)، فهم ملزمون بالدفاع عن المدينة، وردّ الاعتداء عنها.
وخلاصة ما تقدم:
أولاً: أن الدار دار عدل وأمن أو دار ظلم وطغيان أو باعتبار الأمن أو الخوف، فالمسلم أو غيره الذي يتمكن من أداء شعائره ويتكلم بأفكاره بشكل صحيح، فهذه الدار تعد بالنسبة له دار عدل وأمن، وإن كان العكس فهي دار ظلم.
ثانياً: شكل الدولة النبوية التي أقامها النبي -صلى الله عليه وسلم- كان وفق العقد الاجتماعي الذي جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مرجعاً وحلقة فصل بين أهل المدينة من مسلمين ويهود ونصارى وليس على أساس التميز الديني أو العقدي.
ثالثاً: طلاب الدراسات الإسلامية والجامعات الشرعية، واجبكم اليوم أن توجهوا الأفكار وتصححوها وتأخذوا على عاتقكم البحث في هذه المواضيع الحساسة جدّاً، وأن يكون لكم الجرأة في حوار ونقاش الأفكار، فالواقع يحتّم عليكم فعل ما يلزم من إنقاذ المجتمع، مع الاستعانة بعلماء الاجتماع والتربية وعلماء النفس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.