أنا والداعشي

فيما كنت أعيش يومي الوظيفي بصورة طبيعية، وعلى حين غفلة منّا، تلقيت أنا وزملائي إيعازاً بضرورة إخلاء الدائرة، وذلك بسبب إعلان عن حظر التجوال من قِبل الجهات المختصة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/15 الساعة 02:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/15 الساعة 02:15 بتوقيت غرينتش

فيما كنت أعيش يومي الوظيفي بصورة طبيعية، وعلى حين غفلة منّا، تلقيت أنا وزملائي إيعازاً بضرورة إخلاء الدائرة، وذلك بسبب إعلان عن حظر التجوال من قِبل الجهات المختصة.

خرجت عائداً إلى المنزل سيراً على الأقدام بسبب انشغال جميع السيارات؛ إذ لم يكن لدى الموصليين متسع من الوقت للعبور إلى الجانب الأيسر.

ما زلت أذكر تلك اللحظات، كنت متجهاً إلى الجسر الثاني "جسر الحرية" وأنا أرى الناس تسابق بعضها للوصول إلى منازلهم في مكان هو الأكثر نشاطاً وحركة في مثل ذلك الوقت.

وصلت إلى المنزل لأفاجأ بأن التهديد الأمني قد استهدف مدينة سامراء التي تبعد ما يزيد عن 250 كم جنوب الموصل!

تسارعت الأحداث بشكل كبير وجرت مواجهات شكلية لا تليق بمستوى التحدي في أطراف الجانب الأيمن بين القوات الأمنية والدواعش القادمين من الصحراء إلى أن قررت القوات الأمنية الانسحاب من جانبي المدينة وترك رتبهم وترسانتهم العسكرية.

كانت الأمور غامضة ومبهمة بالنسبة لي إلى أن أخبرني صديقي بأن المدينة قد سقطت بيد المسلحين، وأنه في طريقه إلى كردستان العراق.

كان ذلك ليلة العاشر من يونيو/حزيران عام 2014 التي لم أنَم فيها سوى ساعتين أو ثلاث لأستيقظ على صوت العيارات النارية وأرى المسلحين يجوبون مدينتي فرحين مستبشرين؛ إذ لم يكونوا يتوقعون أنهم سيستولون على المدينة يوماً ما بجهد كهذا وبهذه السرعة.

في الوقت الذي كان فيه الموصليون تتقاذفهم أمواج الإشاعات، كان المسلحون ينظمون استعراضاتهم العسكرية في جميع مناطق الموصل، التي وجدت نفسي على بعد أمتار من إحداها في سوق منطقتي.

لم أكن أؤيد أن يتجمع الناس لمشاهدة الدواعش، إلا أنني آثرت البقاء لأنظر في أعينهم وأتفحص حالهم.

لم يكونوا من أهل المدينة الأقحاح؛ إذ لا تبدو عليهم آثار المدنية، كانوا من العرب والأجانب والبعض كان من الأرياف يرتدون الزي الأفغاني، ويحملون معهم مستلزمات السفر والتخييم مثل عبوات المياه والوقود وبعض الفرُش.

كنت أنظر إليهم وأسأل نفسي: ماذا بعد؟ أي هل ستبقى المدينة في وضع اللادولة هذا، وهل سيستطيعون مواجهة العالم وفرض إرادتهم؟ وهل هم أصلاً يؤمنون بفكرة الدولة ليقيموا دولة ويحققوا مصالح الناس؟

بقيت هذه الأسئلة تراودني طيلة فترة بقائي داخل المدينة مع أنني لم أكن أستغرق سوى ثوانٍ؛ لأؤكد لنفسي أن وضعهم كوضع الطفل الذي جزم الأطباء باستحالة بقائه على قيد الحياة.

كان رفضي للواقع الجديد يزداد كل لحظة مما دفعني وأخي إلى اتخاذ قرار الهجرة.

وبالفعل رتبت حاجياتي في صباح يوم 27-10-2014 وتأنقت للقاء بغداد بعد 6 أو 7 ساعات.

كنت متوقعاً السؤال عن سبب السفر إلى بغداد فرتبت وأخي قصة صغيرة لنقولها للدواعش وقت الحاجة.

وكنت متوقعاً أيضاً التوقيف والاستجواب لكن ليس بنسبة كبيرة، إلى أن نادوا اسمي بصوت عالٍ في سيطرة العقرب، وذلك بعد طلب بطاقتي الوطنية للتدقيق الأمني.

تبدد ذلك الحلم الوردي لحظة أن وجّه ذلك الداعشي الصلف سؤاله لي بصوت عال وأسلوب فج: أين كنت تعمل؟ لم يكن لديّ سوى أجزاء ثانية لأختار بين أن أجيبه بصدق أم لا.

خفت أن يكون قد علم بالفعل طبيعة عملي فقلت له بأنني موظف في ديوان محافظة نينوى، تغيّرت ملامح وجهه بشكل سريع ومعها تغيّرت حياتي، حيث بدأ يعاملني كمتهم، وأخذني إلى مسؤول السيطرة الذي أمره باحتجازي.

سرتُ خلف الداعشي ودقات قلبي قد ازدادت أضعافاً مضاعفة، وبدأت أشعر بخمول عام ولم أعُد أقوى على الحركة.

جلبوا كل حاجياتي من السيارة وأمروني بنزع سترتي وحذائي وصادروا ساعتي ومحفظتي ثم عصبوا عينيّ وقيدوا يديّ وأجلسوني في مواجهة الحائط.

بالرغم من مشاهدتي بعضها فإنني لم أكن أحب متابعة إصداراتهم الرائجة وقتها؛ حيث كان قلبي يعتصر عندما أرى مشاهد التحقيق والقتل الحقيقي بحق المعتقلين، ومع ذلك لم أكن أتوقع أبداً أنني سأكون مكانهم يوماً ما.

بدأ التعذيب النفسي والجسدي بالتزامن مع التحقيق؛ حيث وقف الداعشي خلفي ووضع قطعة من النايلون على كامل وجهي وبدأ بشدها باتجاهه بقوة، مما قطع أنفاسي بشكل كامل، كُررت هذه العملية لثلاث أو أربع مرات، ولم يكن يمنعه من الاستمرار فيها إلا مخافة موتي بين يديه.

كانوا يسألونني في كل مرة يسمحون لي فيها بالتنفس: ما هو عملك؟ ولماذا تريد الذهاب إلى بغداد؟ وأين هو سلاحك؟ كان ذلك تزامناً مع الضرب والتكبير وتعمد إسماعي لأصوات البنادق والمسدسات.

كل هذه المؤثرات الخارجية كانت في كفة وصراعي الداخلي في كفة أخرى؛ حيث إنني كنت طيلة فترة التعذيب أستذكر لا إرادياً مشاهد التحقيق والقتل التي شاهدتها من قبل في إصدار صليل الصوارم، مما جعل تلك اللحظات طويلة جداً وصعبة جداً.

انتهى التحقيق، فتحوا عصابة عيني واستبدلوا قيد يدي بقيد فولاذي جديد بعد أن كان خرقة من قماش، مع استمرار مجيء أحدهم بين الحين والآخر؛ ليعيد سؤالي نفس الأسئلة.

ما زلت خائفاً جداً وقلبي يدق بسرعة شديدة، وكنت كثيراً ما أسأل نفسي: مهند هل ستموت اليوم؟ أيُعقل هذا؟ ماذا فعلت وما هو ذنبك لتموت؟ ولكن سبحان الله، كنت كلما راودتني فكرة الموت أتذكر دعائي الذي كنت ألحّ به على ربي منذ سنين، وهو أن يا رب لا تخرجني من هذه الدنيا إلا وقد أديت واجبي فيها على أتم وجه، فيهدأ قلبي وتغشاني السكينة مباشرة، وأتيقن أن أجلي لم يحِن بعد، فما زلت لم أقدم شيئاً للعالم الذي أعيش فيه.

قاربت شمس ذلك اليوم على الانتصاف، وإذا بي أسمع أصوات أقدامهم مقتربين منّي. نقلوني بإحدى سياراتهم إلى مكان آخر.

وفي طريقنا أحسست أنهم مجموعة غير التي كانت أول مرة؛ حيث كان تعاملهم حسناً ويطلبون منّي الهدوء وعدم الخوف بعد أن كانت بادية عليّ مظاهر الخوف والقلق خاصة وقد أكثرت سؤالهم عن تهمتي وسبب اعتقالي، مما دفع أحدهم إلى مخاطبتي قائلاً: "لا تخف من ناس يخافون الله"!

نزلت أنا وسجين آخر إلى القبو (السجن) فسارعت إلى الوضوء وأداء صلاة الظهر، لم يكن في القبو سوى مصحف وعبوة ماء وفراشين.

تجنبت الحديث مع زميلي مخافة أن يكون متعاوناً معهم، ولم أتناول وجبة الغداء بعد ان امتنع عن مشاركتي إياها، فخفت أن يكون فيها شيء ما.

كان السجان (عمر) متعاطفاً معي، فبعد أن سألته عن مصيري أخبرني بأنني غير مدان وأنهم بانتظار الأمير ليأمر بإطلاق سراحي.

لم أنَم سوى بضع دقائق حتى استيقظت على صوت بائع الغاز وهو يجول في المنطقة، عندها استشعرت مقدار النعمة التي يملكها بائع الغاز على بساطة حاله، ألا وهي الحرية.

بقيت أفكر لوحدي والأفكار تتقاذفني بينما يغط صاحبي بنوم عميق.

وصل الأمير، كنت متشوقاً لسماع ما سيقوله لي وكيف أنه سيطلق سراحي. كان الأمير شاباً صغيراً ليس في وجهه أثر الصلاح، وجَه بعض الأسئلة لزميلي وأمر بإطلاق سراحه، ثم سألني بضعة أسئلة وما إن انتهيت من إجابتي حتى أدار وجهه وانصرف.

خارت قواي مرة أخرى وشارفت على البكاء، تدارك عمر الأمر وطلب منّي الانتظار ولحق بالأمير، لم تمر سوى دقائق حتى جاءني عمر مسرعاً وقال لي: استعد للخروج.

عصبوا عيني مرة أخرى وقيدوا يدي وأركبوني في السيارة. في الطريق قال لي عمر وهاتفي في يده بمن أتصل من أهلك؛ لكي أخبره بإطلاق سراحك؟ قلت له: والدي، على اعتبار أنه على علم بالقصة التي أعددناها أنا وأخي.

بادر عمر بسؤال والدي عن سبب ذهابي لبغداد، عندها يبدو أن والدي ارتبك ونسي القصة؛ حيث أجابه بأنه خاف عليّ وأراد إرسالي إلى بغداد.

أغلق عمر الهاتف مباشرة والتفت إليّ وأخبرني بما قاله والدي، عدت مرة أخرى للمربع الأول ودائرة الاتهام فكلام والدي ينسف كل ماكنت أقوله طيلة اليوم.

هنا كانت عناية الله حاضرة، فعلى الرغم من كل علامات الاستفهام حولي لم يتراجع عمر عن قرار الإفراج، فأوعز للداعشي الذي كان بجانبه بأن يفك قيدي ويعطيني أمتعتي. نزلت من السيارة لأجد نفسي في منطقة شعبية لا أعرفها فسارعت باستئجار سيارة أجرة وعدت إلى المنزل فوراً.

استعدت حريتي بعد يوم شاق، إلا أن شبح الاعتقال ما زال حاضراً، فالآن معلوماتي كلها عندهم ويمكنهم إحضاري متى شاءوا.

كما أن مما كان يزيد معاناتي هو سماعي قصص اعتقال وإعدام مرشحي الانتخابات وموظفيها وإعلاميين وما أكثرها من قصص!

كانت هذه الأخبار تفاقم حالتي النفسية بشكل كبير، مما دفعني إلى أن أقضي أغلب وقتي أمام القنوات الإخبارية على أمل معرفة شيء جديد عن موعد التحرير.

كنت أحاول أن أخفف من الضغط النفسي عبر كثرة الحديث عن الدواعش وإظهار سلبياتهم وتفنيد أقاويلهم أمام من أثق بهم.

ازدادت حدة لساني عليهم أمام أسرتي وذلك بعد أن منعني والدي من الحديث عنهم أمام الناس خوفاً على حياتي، هنا أحسست أن العالم قد ضاق بشكل كبير ولم يعد أمامي سوى أسرتي لأخرج لها ما في قلبي، إلا أنني اضطررت إلى أن أتوقف عن انتقاد الدواعش حتى في داخل أسرتي بعد فترة قصيرة، كان ذلك بعد سلسلة مشادات كلامية مع والدي بسبب موقفي منهم انتهت بشجار بيننا، عندها قررت أن أعود خطوة إلى الوراء وأكون سجيناً في داخلي.

عندئذ ضاقت عليّ الأرض بما رحبت وفقدت ما بقي لها من لون أو طعم أو رائحة، ازدادت حالتي النفسية سوءاً بشكل كبير، وفي المقابل ازداد الدواعش شراسة وإثخاناً بحق الموصليين بشكل أكبر من خلال كثرة القتل وتشويه الفكر وإيقاف عجلة الحياة، والتدخل في حياة الناس الخاصة.

لم أعد أحتمل الحياة داخل المدينة بعد أن فقدت الأمل بالتحرير، فقررت الهجرة مرة أخرى بالرغم من خطورتها وارتفاع نسبة احتمالية موتي نتيجة هذا القرار، على الرغم من ذلك آثرت الموت على أن أعيش حياة الأموات.

وفي ظهيرة يوم 11-7-2015 ارتديت دشداشتي التي ما زلت أعتز بها وانطلقت أنا والمهرب إلى مدينة الرقة السورية، ومن ثم إلى الحدود السورية التركية التي اجتزتها سيراً على الأقدام عند مغيب شمس اليوم التالي.

بعدها سارعت بالاتصال بأحد معارفي في تركيا ليساعدني بالبحث عن سكن أو عمل، وإذا به يفاجئني بقوله إن هناك منحة دراسية لدراسة الماجستير، هنا عادت إلي روحي من جديد إذ لم تمضِ سوى عدة أسابيع إلا وكنت طالباً في إحدى أشهر جامعات إسطنبول.

كانت هذه قصتي مع داعش التي كُللت بالنجاح في نهاية المطاف، لكنّ هناك آلاف القصص لمئات الآلاف من الشباب والشابات من الذين خُطفوا وأُعدموا في تلك الفترة، فضلاً عن أضعافهم من الذين جُمدت حياتهم ومُنعوا من العيش بصورة طبيعية.

وبعد كل ذلك وجدوا أنفسهم متأخرين عشرات السنين مقارنةً مع نظرائهم في باقي المحافظات، بعد أن خسرت مدينتهم بنيتها التحتية وقوتها الاقتصادية، وفقدت 40 ألف شهيد.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد