في بداية تلك التغييرات الجذرية التي قامت بها المملكة العربية السعودية في طريقها لحدثنة الدولة الدينية، ومحاولة التجديد من بنية وفكرة الدولة الثيوقراطية التي اشتهرت بها على مدى السنوات الماضية، ومحاولتها التخلي عن تلك التابوهات الوهابية الماسكة بزمام الأمور الدينية والتشريعية في المملكة، وفي ظل تلك التطورات التي أصابت السلطة الوهابية بالضعف والتشتت، ثم فقدان تلك الحاكمية بشكل متدرج، وإفساحها إلى سلطة ليبرالية لا تخفى على أحد من كان.
كنت قد اقترحت على بعض الإخوة من الذين يتخذون المنهج السلفي، ويقدسون الوهابية والمملكة العربية السعودية، في السودان وفي منتداهم الدوري، أن يتناولوا تلك القضايا المؤثرة والتغييرات التي حدثت وستحدث في القريب العاجل في المملكة العربية السعودية، وقد اقترحت لهم عنواناً يناقش تلك القضية التي اعتبرتها قضية الساعة، بل قضية العام بلا منازع، ولكن لم يأتِ جواب مقنع من القائمين على أمر المنتدى، بل فضّلوا ألا يكونوا جزءاً من تلك الأزمة، ويتجنبوا الحديث عن السعودية والتغييرات التي حدثت بها، متمسكين بالصمت حتى ولو كان بعض شيخوهم أُلقي به في السجن، لم ألقَ منهم جواباً مقنعاً، بل تم تجاهل ما طرحته من موضوع، واختيار موضوع ليس بالمهم تفادياً من الوقوع في الحرج.
مما سبق يمكن أن نقول: إن المملكة الآن تمر بحالة تغيير شامل، تغيير في المقام الأول ديني، في سعيها نحو تأسيس لحاكمية جديدة يمكن أن تكون شبه علمانية، إن لم تكن علمانية صريحة، كما يتبع هذا التغيير الديني تغيير سياسي واجتماعي في بنية الدولة القادمة، التي لا مكان فيها للتزمت والتشدد الديني، كما قال ولي عهدها، ولكن هذا التغيير من الجانب الآخر أسس لديكتاتورية جديدة لا تؤمن بالرأي والرأي الآخر، وتُلقي كل مَن يناصحها ولو بتدوينة صغيرة في السجون.
تلك التغييرات لم تكن من دواعي الإصلاح السياسي في البلاد، ولكن جاءت من بعد ضغوط تمارَس على المملكة بدعوى التخلص من ذلك الوصف الذي ألصق باسم المملكة وصف الإرهاب، ذلك الوصف الفضفاض الذي ما برحت القوى الغربية تمسك به كسلاح ضغط على جميع الدول العربية الإسلامية، وإخضاعها للطاعة، والبداية في نهب خيرات تلك الدول.
السعودية ليست بدعاً من جميع تلك الدول الإسلامية، بل تأتي في المقدمة تلك الدول لما تحويه من قداسة دينية واحترام يحمله الجميع لها، بما تشكل من رمزية دينية؛ لذلك تم استهداف المملكة العربية السعودية، وللأسف جاء هذا الاستهداف بتجنيد من الداخل، ومحاولة نقض البيت السعودي بأيدٍ سعودية خالصة تملك زمام الأمور.
إن الأزمة الخليجية المفتعلة بين الأشقاء العرب في دول الخليج ما هي إلا نتاج لذلك الاستهداف، فقد نجح ترامب في سياسته الجديدة التي تقوم على منهج التفكيك وحل الترابط الوثيق بين الأشقاء في البيت الخليجي، وإعادة إنتاج دول جديدة في طرحها السياسي الذي يقوم على العلمانية الصريحة، وفك تلك النزعة المقدسة التي تسيطر على دول المنطقة، بما تحويه المنطقة من رمزية قدسية دينية، إذا تم تفكيكها يتم تفكيك كل الدول العربية والإسلامية؛ لذلك فاستهداف السعودية ليس استهدافاً لذاتها، بل هو استهداف للإسلام والدول الإسلامية جميعها.
هذا الطرح التفكيكي وجد ضالّته في ولي العهد الجديد، الذي من المنتظر أن يصبح الملك القادم؛ ليتبنى تلك التغييرات الواسعة في المملكة العربية السعودية؛ ليحمل لواء الإصلاح كما يدّعي بعض السياسيين السعوديين، الذين أيَّدوا تلك الإصلاحات والتغييرات التي اجتاحت المملكة، إما رغبةً أو رهبةً في ظل الأجواء المشتعلة بالتوتر السياسي، وما تعرض له العديد من المشايخ ورجال الدين من الاعتقال والمنع من السفر تكميماً للأفواه، في سياسة جديدة -كما ذكرنا- قد تقود المملكة إلى صراع بين مكوناتها الدينية خاصةً والمجتمعية عامةً، قد تقود إلى ظهور جبهة معارضة جديدة تعمل على إسقاط الحكم الملكي وتغييره بالحكم الديمقراطي، واتخاذ الشعب حاكماً ومقرراً لمن يحكمه.
إن هذه الإصلاحات في المستقبل قد تأتي بخلاف ما يتصوره "بن سلمان"، قد تقود إلى المطالبة بالتنحّي، والاحتكام إلى رأي الشعب، والمطالبة بالحكم الديمقراطي -كما ذكرنا من قبل- بدعوى الإصلاح والتغيير السياسي الشامل، مما يقود إلى قيام احتجاجات تجتاح المملكة العربية السعودية تدعو إلى الثورة، وإلى ربيع سعودي خالص.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.