قال مسؤولون أميركيون إن جميع أفراد العائلة المالكة السعودية مُنِعوا من مغادرة البلاد، حسبما نقلت عنهم صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
ووصف تقرير للصحيفة حملة اعتقالات منتصف الليل السريعة التي أمر بها ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، والتي شملت العشرات من أكثر الشخصيات نفوذاً بالسعودية، بما في ذلك 11 من أفراد العائلة المالكة من أبناء عمومة ولي العهد، بأنه التحول الأكثر اجتياحاً في نظام حكم المملكة منذ أكثر من 8 عقود.
وقُدِّمت أوامر الاعتقالِ، التي أصدرَها محمد بن سلمان، ولي العهدِ، من دون توجيه اتهامات رسمية أو اتخاذ أي إجراءات قانونية، باعتبارها حملةً على الفساد. فقد أُلقِيَ القبض على أغنى مستثمر في المملكة، الأمير الوليد بن طلال، وأقوى منافسٍ متبقٍّ لولي العهد على السلطة، الأمير متعب بن عبد الله، وهو الابن المُفضَّل لدى عاهل السعودية الراحل، الملك عبد الله.
وأُعفي الأمير متعب من منصبه كقائد للحرس الوطني، فقط قبل ساعات من الإعلان عن حملة الاعتقالات في وقتٍ متأخرٍ من مساء يوم السبت 4 نوفمبر/تشرين الثاني.
سيطرة كاملة
مع حملة الاعتقالات الجديدة، يبدو الآن أن ولي العهد محمد، الابن المُفضَّل للملك سلمان ومستشاره الرئيسي، أرسى سيطرته على كل المؤسسات الأمنية السعودية الثلاث؛ وهي الجيش وجهاز الأمن الداخلي والحرس الوطني.
وعلى مدار عقود، كانت سلطة تلك الأجهزة مُوزَّعة بين فروع عائلة آل سعود؛ للحفاظ على توازن القوى في السعودية، التي تعد أكبر منتج للنفط بالشرق الأوسط، وحليفاً أميركياً مهماً.
وخلال الضربة ذاتها، أجبر ولي العهد رجال الأعمال وأفراد العائلة المالكة في جميع أنحاء المملكة على الإذعان له، بإطاحته بعملاق الاستثمارات السعودية الوليد بن طلال.
وعلى مدار الأسابيع العديدة الأخيرة، أمر باعتقالات كثيرة لرجال دين ومثقفين بارزين؛ لإرهاب ما تبقى من المؤسسة الأكاديمية والدينية للاستجابة لإرادته أيضاً.
ويشعر الأكاديميون السياسيون، الذين اعتادوا الحديث بحرية في المقاهي، الآن، بقلق مستمر بشأن مصيرهم، في الوقت الذي حقَّق فيه ولي العهد محمد درجةً من الهيمنة لم يصل أي حاكم إليها على مدار أجيال.
وقال تشارلز فريمان، وهو سفير أميركي سابق لدى السعودية: "إنها رصاصةُ الرحمةِ للنظام القديم، بما أنه أصبح من الماضي. فكل السلطة تتركز الآن في أيدي محمد بن سلمان".
لماذا تحرك الآن؟
لم يتضح على الفور، لماذا تحرك ولي العهد في الوقت الحالي، هل كان ذلك بهدف إقصاء المعارضة المستقبلية أو ربما لسحق تهديد رآه يُحاك ضده؟
تقول "نيويورك تايمز" إن ولي العهد السعودي، الذي يبلغ الثانية والثلاثين من عمره، لديه خبرة قليلة في الحكم، مشيرة إلى أنه هو ووالده الملك سلمان، البالغ من العمر 81 عاماً، والذي جلس على العرش عام 2015، أظهرا قليلاً من الصبر إزاء وتيرة التغيير الرصينة السابقة في المملكة.
وأدت هذه التغييرات إلى دفع بالسعودية في صراعٍ عسكري مُطوَّل باليمن، وعداءٍ مريرٍ مع جارتها الخليجية قطر. وتحدَّى نخبةَ رجال الأعمال التي اعتادت إعانات الدولة والتبذير من خلال وضع خطط جذرية لإعادة تشكيل الاقتصاد السعودي، بتقليل اعتماده على النفط والاعتماد بدلاً من ذلك على الاستثمار الأجنبي.
وشملت التغييرات تأهَّباً ضد المحافظين في المؤسسة الدينية، باتخاذ خطوات رمزية لتخفيف القوانين الأخلاقية الصارمة، بما في ذلك نهاية معلّقة لحظرٍ طال أمده لقيادة النساء للسيارات.
رجال الأعمال يغادرون
لكنَّ الصحيفة ترى أن تسرُّع ولي العهد في هذا الوقت، ربما تكون له تداعياتٌ سلبي؛، لأن غياب الشفافية أو الإجراءات القانونية اللازمة المحيطة بحملة مكافحة الفساد، بالتأكيد ستثبِّط عزمَ مستثمري القطاع الخاص أنفسهم والذين يأمل اجتذابهم للمملكة مستقبلاً، بما في ذلك خلال طرح عام أوَّلي مُخطَّط له لأسهم شركة النفط العملاقة الحكومية "أرامكو".
وكان رجال الأعمال والأمراء السعوديون، القلقون بشأن خطط ولي العهد، ينقلون بهدوءٍ ممتلكاتهم خارج البلاد حتى قبل الاعتقالات، حسب تقرير "نيوريورك تايمز".
وقال جيمس دورسي، الذي يدرس الشؤون السعودية بمدرسة راجاراتنام للدراسات الدولية في سنغافورة: "بعض هؤلاء المعتقلين هم رجال أعمال ذوو شأنٍ دولي، وإذا أُلقِيَ القبض عليهم في إطار تلك الشبكة، فذلك يعني أن هذا قد يحدث لأي شخص". وأضاف متسائلاً: "كيف يمكن لذلك أن يخلق ثقة ويجذب الاستثمار الأجنبي؟".
ومع ذلك، احتفلت وسائل الإعلام السعودية بالاعتقالات ووصفتها بأنها عملية تطهير طال انتظارها، محاوِلة استغلال استياءٍ شعبويٍ من الإثراء الذاتي الذي كانت تنعم به العائلة المالكة مترامية الأطراف وحلفاؤها الأقرب.
وينقل موقع "دويتش فيله" الألماني عن محللين قولهم إن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، يعمل على إحكام قبضته في السياسة والاقتصاد، عبر استراتيجية مزدوجة: التصدي لأي معارضة، واستقطاب الجيل الشاب إلى حلقة طموحاته.
أمراء هاربون
ولا شك في أنَّ الجميع تقريباً بالعاصمة السعودية الرياض، وغيرها من المدن الكبرى مثل جدة، قد سمعوا قصصاً عن أمراءٍ هاربين بمبالغ هائلة كانت مُخصَّصة لأحد المشروعات العامة.
وقال برنارد هيكل، وهو أستاذ في جامعة برينستون يدرس الشؤون السعودية، إنَّ الاعتقالات تُمثِّل "اعتداءً مباشراً على بعض أفراد العائلة المالكة، والحصانة التي كانوا ينعمون بها في الماضي".
وأضاف: "كان ذلك شيئاً يجب فعله"، مع أنَّ غياب الإجراءات القضائية "يبث الخوف في نفوس مستثمرين أجانب".
وفي نظر كثيرين من شركاء السعودية الغربيين، يمثل الأمير الوليد، الذي قدّرت مجلة فوربس ثروته بمبلغ 17 مليار دولار، وجه قطاع الأعمال السعودي؛ إذ يظهر كثيراً على شاشات التلفزيون العالمية وفي تقارير عن استثماراته وأسلوب حياته، وهو ما يمكن أن يسرق الأضواء عن أمير شاب طموح يريد أن يعتلي عرش مملكة عصرية تتنافى مع صورتها القديمة التي دائماً ما تُربط بالجمود والتطرف والتشدد والإرهاب، حسب تقرير "دويتش فيله".
تأييد ترامب
ويبدو أنَّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد أيَّدَ الاعتقالات ضمنياً في مكالمةٍ هاتفية مع الملك سلمان. ولم يتضمَّن مُلخَّص البيت الأبيض الخاص بالمكالمة أي إشارةٍ إلى الاعتقالات، وذكر أنَّ ترامب أشاد بولي العهد الأمير محمد بخصوص مسائل أخرى.
وكان3 مستشارين من البيت الأبيض، من بينهم صهر ترامب، جغاريد كوشنر، قد عادوا إلى الولايات المتحدة منذ بضعة أيامٍ فقط من آخر زيارةٍ ضمن 3 زياراتٍ رفيعة المستوى على الأقل، أجرتها إدارة ترامب إلى السعودية هذا العام.
وبعد نحو 24 ساعة من إعلان الاعتقالات، لم تُحدِّد أي سلطةٍ سعودية أو مُتحدِّث رسمي هوية الأشخاص المعتقلين ولا التهم الموجهة إليهم.
وذكرت شبكة "العربية" الفضائية المملوكة للسعودية فقط، أن عدداً كبيراً من الاعتقالات، من بينهم 11 أميراً، جاء وفقاً لأوامر "لجنة مكافحة الفساد" التي شُكِّلَت قبل ساعات فقط تحت قيادة ولي العهد الأمير محمد. ويمنح مرسومٌ ملكي اللجنة صلاحيات احتجاز أفراد أو الاستيلاء على أصول دون أي محاكمة، أو إجراءات، أو إعلان تفاصيل.
وبدأت شبكات التواصل الاجتماعي في تداول قائمةٍ بأسماء المعتقلين منتصف ليلة الأحد 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2017. وبحلول مساء يوم الأحد، كان مسؤولون حكوميون بارزون قد أعادوا نشر القائمة. وأعلنت منظماتٌ إخباريةٌ في المنطقة الأسماء الواردة في قائمة المعتقلين دون إنكارٍ من الحكومة السعودية أو مسؤوليها.
وبالنسبة لأقوى المعتقلين من الناحية السياسية، وهو وزير الحرس الوطني السابق الأمير متعب بن عبد الله، بدا أنَّ الحكومة السعودية قد بدأت يوم الأحد حملةً عبر الشبكات الاجتماعية لجعله الوجه الجديد للفساد العام.
وقال محللون إنَّ القائمة بدا أنَّها تعكس الأشخاص المشهورين بالإثراء الذاتي والذين يُمثِّلون مراكز قوة منافسة داخل المملكة. وشملت الأسماء الأخرى في القائمة شخصاً ذا نفوذٍ كان يرأس الديوان الملكي في عهد الملك عبد الله، وصاحب إحدى كبرى شركات الإعلام الخاصة في المنطقة.
لماذا اعتقل محمد بن سلمان مساعده الأبرز؟
ولكن أحد الأشخاص الآخرين ضمن القائمة كان من أبرز مساعدي ولي العهد الأمير محمد نفسه، وهو عادل فقيه، الذي كان يُعتبر قوةً دافعةً وراء برنامج الإصلاح الاقتصادي الطموح، مما ترك المُحلِّلين في حيرةٍ من أمرهم بخصوص دوافع هذه الخطوة.
وفيما بدا أنَّه حادثٌ منفصل، تحطَّمت مروحيةٌ كانت تُقِل فرداً آخر من أفراد الأسرة المالكة، وهو منصور بن مقرن، نائب أمير منطقة عسير، الواقعة على الحدود السعودية-اليمنية، يوم الأحد؛ مما أسفر عن مقتل الأمير مع عددٍ من المسؤولين الآخرين. ولم تُحدِّد قناة العربية، التي أوردت الحادث في خبرٍ موجز، سبب التحطُّم.
تاريخ آل سعود
وجديرٌ بالذكر أنَّ تاريخ آل سعود كان يشهد في بعض الأحيان صراعاً عائلياً عنيفاً في العقود التي سبقت تأسيس العائلة الحاكمة الحديثة في عام 1923. ومنذ ذلك الحين، حافظت العائلة على وحدتها جزئياً بتوزيع المناصب الحكومية العليا وثرواتها النفطية الهائلة بين مختلف فروع العشيرة المترامية الأطراف. والأهم من ذلك، كان تقسيم الأجهزة الأمنية الرئيسية الثلاثة، التي تُشكِّل القوة الصلبة على الأرض.
ولكنَّ الملك سلمان سرعان ما عيَّن ابنه المُفضَّل، محمد بن سلمان، في منصب وزير الدفاع، ورئيساً للديوان الملكي، ومستشاراً اقتصادياً كبيراً، ونائب ولي العهد. وبعد ذلك، في شهر يونيو/حزيران من العام الجاري (2017)، عزل الملك ابن أخيه، محمد بن نايف، من منصبه كوليٍ للعهد، ومن دوره القوي كوزير داخلية مسؤول عن قوات الأمن الداخلي ومجلس الشؤون السياسية والأمنية وعمليات مكافحة الإرهاب.
ومن الواضح أنَّ الملك كان حريصاً على منع المقاومة؛ إذ وضع ابن أخيه المعزول تحت الإقامة الجبرية كذلك. ونشرت حملة تسريبات شائعاتٍ بأنه أصبح مدمناً لمسكنات وعقاقير أخرى.
لماذا اعتقل الوليد بن طلال؟
ولم يتضح سبب استهداف حملة الاعتقالات الأمير الوليد بن طلال، الذي اشتُهر باستثماراته الماضية والحالية في شركات غربية شهيرة، من بينها: "تويتر"، و"نيوز كوربوريشن"، و"آبل"، و"فورسيزونز".
وكان الأمير الوليد مؤيداً صريحاً لخطط ولي العهد لجذب مستثمرين خارجيين إلى المملكة العربية السعودية. ولكن حين وافقت لجنة مكونة من 34 من كبار أفراد الأسرة، ومعروفة باسم هيئة البيعة، على ترقية الأمير محمد إلى منصب ولي العهد، كان أحدَ المعارضين الثلاثة من فرع طلال الذي ينتمي إليه الوليد والتابع لفروع العائلة، وفقاً لما ذكره أشخاص مطّلعون على التصويت.
وأشار مايكل ستيفنس، الذي يدرس شؤون المملكة العربية السعودية في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بالعاصمة البريطانية لندن، إلى عمليات التطهير الدموية التي ارتكبها قادة آخرون في المنطقة أحياناً للقضاء على منافسيهم. وقال ستيفنس إنَّ ما يفعله ولي العهد الأمير محمد يُمثِّل "طريقة ألطف لضمان عدم وجود تحديات تهدد سلطتك".
وأضاف ستيفنس أن الأيام القادمة ستبين إذا ماكانت الاعتقالات تشير إلى الانزلاق للاستبداد أو "إذا ما كنا سننظر إلى الماضي ونقول إنَّ محمد بن سلمان هو الرجل الذي رأى الإخفاق قادماً واستطاع صدّه".