على مدى عقود، كانت المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية تحظى بسلطةٍ هائلة، فكان هناك ملتحون يضبطون السلوك العام، وشيوخ بارزون يُحدِّدون الصواب والخطأ، وجمعياتٌ دينية تستخدم الثروة النفطية للمملكة في الترويج للتفسير المتعصب للإسلام بمختلف أنحاء العالم.
والآن، يحدّ ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، من امتيازاتهم كجزءٍ من محاولته لبسط سيطرته على المملكة والضغط باتجاه نسخة أكثر انفتاحاً للإسلام، حسب وصف تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
كيف أخضعهم؟
وقبل موجة الاعتقالات التي قام بها السبت 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، لأقرانه من الأمراء والوزراء السابقين بمزاعم الفساد- كان الأمير بن سلمان قد جرَّد الشرطة الدينية من سلطة اعتقال الأفراد، ووسَّع مجال المرأة في الحياة العامة، بما في ذلك منحهن حق قيادة السيارات.
كما اعتقل العشرات من رجال الدين، بينما جرى تحديد آخرين للتحدُّث علانيةً عن احترام الديانات الأخرى، وهو موضوعٌ لم يكن مُحبباً للسلطة الدينية في المملكة قبل ذلك.
وإذا ما استقرت هذه التغييرات، فإنَّ ذلك قد يعني إعادة ترتيبٍ تاريخي للدولة السعودية، من خلال تقليص دور رجال الدين المتعصبين في رسم السياسة. وقد تتردد أصداء هذا التحوُّل خارج حدود البلاد من خلال جعل النسخة المُتشدِّدة التي تُصدِّرها المملكة للإسلام، الوهابية، والتي اتُّهِمت بتغذية التعصب والإرهاب، نسخةً معتدلة.
ويُعد إخضاع المؤسسة الدينية أيضاً جزءاً حاسماً من جهود الأمير محمد بن سلمان للسيطرة على أدوات النفوذ التقليدية في السلطة السعودية. وبدا أنَّ الاعتقالات التي جرت يوم السبت الماضي حدثت لتعطيل المنافسين المحتملين داخل العائلة المالِكة والبعث برسالة تحذيرٍ إلى مجتمع الأعمال لقبول سلطته.
سيطر الأمير بن سلمان على قوات الأمن الثلاث الرئيسية في البلاد، ويمسك الآن بلجام المؤسسة الدينية القوية.
وكدليلٍ على ذلك، أيَّدت هيئة كبار العلماء السعودية، التي تضم كبار رجال الدين بالمملكة، الاعتقالات التي جرت في عطلة نهاية الأسبوع، قائلةً إنَّ "محاربة الفساد تأمر به الشريعة الإسلامية، وتقضي به المصلحة الوطنية".
وأوضح ولي العهد، البالغ من العمر 32 عاماً، مقاصده الدينية في مؤتمرٍ استثماري عُقِد مؤخراً بالرياض، قائلاً إنَّ المملكة في حاجةٍ إلى "الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الاديان وجميع التقاليد والشعوب".
لكنَّ هذه التغييرات الجوهرية ستواجه حتماً تحدياتٍ كبيرة في مجتمعٍ شديد المُحافظة، وغارقٍ في فكرة أنَّ الضوابط الدينية الموجودة بالمملكة السعودية تُميِّزها عن بقية العالم باعتبارها أرض الإسلام النقيّ. وسيتطلب أيضاً فرض هذه التغييرات إصلاح البيروقراطية الدينية الممتدة في الدولة، والتي يخشى كثيرٌ من موظفيها أنَّ المملكة تتخلّي عن مبادئها.
ردود فعلهم
وقال رجل دينٍ حكومي في مدينة بريدة السعودية، وهي مدينة مُحافِظة تقع شمال الرياض، مُتحدِّثاً عن القبول الجديد للاختلاط والموسيقى في المناسبات العامة: "بالتأكيد، لا يجعلني هذا أشعر بارتياح. فكل أمرٍ يشوبه إثم، وأي شيءٍ يُغضب الله عز وجل يُعَد مشكلة".
وحاولت الحكومة إسكات مثل هذه الآراء عبر اعتقال رجال الدين، وحذَّرت أفراد الشرطة الدينية من التحدث علانيةً عن فقدان سلطاتهم، وذلك وفقاً لأقاربهم.
وتحدَّث كل رجال الدين الذين جرت مقابلتهم للحديث عن هذا الأمر شريطةَ عدم الكشف عن هويتهم؛ خشية اعتقالهم هم أيضاً بسبب كسرهم قواعد الحكومة.
وقال أحد رجال الدين عن حملة الاعتقالات: "لقد قاموا بضربةٍ استباقية. فكل الذين فكروا في قول (لا) للحكومة اعتُقِلوا".
واعترف بأنَّ العديد من المُحافِظين لديهم تحفظات على التوجُّه الجديد، لكنَّهم سيتقبَّلونه، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ الإسلام في السعودية يؤكِّد وجوب طاعة الحاكم.
وأضاف: "الأمر لا يُشبه الاستفتاء وأن يقولوا: هل تريدون الذهاب في هذا الاتجاه أم ذاك؟ لكن في النهاية، يسير الناس عبر الباب الذي تفتحه لهم".
كان رجال الدين على مدى فترة طويلة خاضعين للعائلة المالِكة، لكنَّ استقلاليتهم تآكلت منذ أصبحوا موظفين حكوميين وأُجبِروا على قبول -وفي بعض الأحيان إقرار- السياسات التي لا تعجبهم، مثل قدوم القوات الأميركية، الذين يعتبرونهم كفاراً، إبَّان حرب الخليج الثانية في عام 1990.
لقد ضعفت من قبل
وقال ستيفان لاكروا، الباحث في العلوم السياسية بمعهد الدراسات السياسية في باريس: "بطريقةٍ ما، يحاول بن سلمان محاربة مؤسسةٍ دينية ضعفت بالفعل. فمعظم رجال الدين الوهابيين غير راضين عما يحدث، لكنَّ بقاء التحالف مع الأسرة الملكية هو ما أكثر ما يهم. فلديهم الكثير ليخسروه إذا اعترضوا".
يعود تحالف رجال الدين والعائلة المالِكة إلى تأسيس الأسرة السعودية في العقد الأول من القرن الثامن عشر. ومنذ ذلك الحين، حكمت العائلة المالكة بإرشاداتٍ من رجال الدين، الذين أضفوا الشرعية على حكمهم.
واستمر التحالف عبر تأسيس الدولة السعودية الحديثة على يد جَد ولي العهد الحالي في عام 1932، الأمر الذي منح المملكة طابعها الإسلامي الصارم؛ إذ تُغطِّي النساء أجسادهن بالعباءات السوداء، وتُغلَق المحلات بانتظامٍ طوال اليوم للصلاة، وتُحظَر المشروبات الكحولية، ويعاقَب كذلك مرتكبو الجرائم الخطيرة بقطع الرأس.
وتُحظر أيضاً الشعائر العلنية لأي دينٍ غير الإسلام، ويُدير رجال الدين نظام القضاء، الذي يُنزِل عقوباتٍ قاسية كالجَلد والسَجن لجرائمٍ كعقوق الوالدين والرِدَّة.
الكتب الدراسية
وتقول منظمات حقوق الإنسان إنَّ الكتب الدراسية في المملكة لا تزال تُعزِّز التعصُّب، وإنَّ المسؤولين في وزارة التعليم ينقلون آراءهم إلى الطلاب.
وفي حين بدأ حظر الاختلاط بين النساء والرجال في التغيُّر، لا يزال الفصل بين الجنسين هو القاعدة.
ولم يُظهِر الأمير بن سلمان، الذي برز على الساحة بعدما أصبح والده ملكاً في عام 2015، سوى القليل من الاحترام للمؤسسة الدينية التقليدية، في حين قاد انفتاحاً اجتماعياً غير مسبوق.
فحين سحبت الحكومة صلاحيات الاعتقال من الشرطة الدينية، المعروفة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، العام الماضي (2016)، شعر الكثير من السعوديين بالصدمة لدرجة أنَّهم شكَّكوا في أنَّ الأمر كان حقيقياً. ومهَّد ذلك التغيير الطريق لخيارات رفاهيةٍ أكبر، بما في ذلك عقد حفلاتٍ موسيقية وعروضٍ للرقص.
وبالإضافة إلى وعد النساء بمنحهن حق قيادة السيارت في يونيو/حزيران الماضي 2017، عيَّنت الحكومة سيدات بمناصب رفيعة، وأعلنت أنَّها ستسمح لهنَّ بدخول ملاعب كرة القدم، في ضربةٍ جديدة لمنع الاختلاط بين الجنسين.
الشباب
وخلال دفعه باتجاه إصلاحاتٍ كتلك، يراهن ولي العهد محمد بن سلمان على أنَّ فئة الشباب كبيرة العدد ضمن سكان المملكة يهتمون أكثر بشأن الترفيه والفرص الاقتصادية من اهتمامهم بالعقيدة الدينية.
واحتفى الكثير من الشباب السعودي بالتوجُّه الجديد، وسيودون رؤية إبعاد رجال الدين عن الحياة العامة. لكنَّ التغييرات صدمت المُحافِظين.
فقال رجل دينٍ آخر في بريدة: "المجتمع بشكل عام في هذا الوقت خائفٌ جداً. إنَّهم يشعرون بأنَّ المسألة سلبية، فذلك سيدفع النساء إلى المجتمع. هذا ما يدور في عقولهم، هذا ليس صحيحاً وسيجلب من المفاسد أكثر مما سيجلب من المنافع".
ومثل رجال دين آخرين، لا يرى هذا الرجل سبباً دينياً لمنع المرأة من قيادة السيارات، لكنَّه يعارض تغيير وضعية المرأة بطرقٍ، قال إنَّها مخالفة للشريعة الإسلامية.
فقال: "إنَّهم يرغبون منها الرقص، ويرغبون منها الذهاب إلى دور السينما. إنَّهم يرغبون منها أن تُظهِر ساقيها وفخذيها. إنَّها أيديولوجيا فاسدة".
الجزء الأسوأ
ومع ذلك، يجد البعض أنَّ الخطوات الأخيرة مُشجِّعة، حسب "نيويورك تايمز".
فقال كول بانزل، الزميل في برنامج التطرُّف بجامعة جورج واشنطن: "إن كان سيتخذون إجراءاتٍ جادة للقضاء على الأجزاء الأسوأ في السلفية التي تتخلَّل الإسلام بمختلف أنحاء العالم، فإنَّ ذلك في المجمل قد يكون أمراً جيداً تماماً".
ونقل تقرير لـ"رويترز" عن أحد الباحثين الذين التقاهم في الماضي الأمير محمد، أن الأمير أبلغهم أن إجراءات عقابية سيتم وضعها في الاعتبار إذا أقدم أي رجل دين على التحريض على العنف أو ممارسته كرد فعل على الخطة الإصلاحية.
وقال الأمير محمد لـ"فورين بوليسي"، إنه يؤمن بأن نسبة قليلة فقط من رجال الدين في المملكة لديهم جمود فكري، في حين أن أكثر من نصف رجال الدين يمكن إقناعهم بدعم الإصلاحات التي يسعى لتنفيذها من خلال التواصل والحوار.
تحت الأرض
لكنَّ رجل دينٍ يعمل في التعليم بالرياض، قال إنَّه يشعر بالقلق من أنَّ استعداء المُحافِظين بصورةٍ مبالِغة قد يقود الأشخاص الأكثر مُحافظةً منهم للعمل تحت الأرض، حيث يمكن أن ينجذبوا للعنف.
وتظهر سوابق كهذه في التاريخ السعودي، حسب تقرير "نيويورك تايمز".
ففي عام 1979، احتل متطرِّفون، اتهموا العائلة المالِكة بأنَّها غير إسلامية بالقدر الكافي، المسجد الحرام في مكة، الأمر الذي صدم المسلمين بجميع أنحاء العالم. ولاحقاً، أسَّس أسامة بن لادن تنظيم القاعدة، بعد إحداثه قطيعةً مع السعودية؛ بسبب اعتمادها على القوات الغربية من أجل توفير الحماية لنفسها. وفي الآونة الأخيرة، التحق آلاف السعوديين بتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) لأسبابٍ شبيهة.
سوابق مشجعة
لكن هناك سوابق أيضاً لرجال دين تبنّوا التغيير بعدما رفضوه بادئ الأمر.
إذ حارب الكثيرون من رجال الدين إدخال جهاز التلفاز إلى السعودية؛ والآن، أصبح لديهم قنواتهم الفضائية الخاصة بهم. وقاوم آخرون تعليم البنات؛ والآن يرسلون بناتهم إلى المدارس.
قال أحد رجال الدين إنَّه لم يرغب في أن يكون لدى زوجته وبناته هواتف محمولة في بادئ الأمر، لكنَّه غيَّر رأيه لاحقاً. وقد يحدث الأمر نفسه مع موضوع قيادة المرأة للسيارة.
فقال: "بمرور الوقت، إن رأى المجتمع أنَّ القرار إيجابيّ وآمن، فسيتقبَّله".