لست أدري، هل هو النفاق السياسي والانحطاط الأخلاقي للسياسة الخارجية البريطانية عندما تعلن رئيسة الوزراء عن فخرها بإصدار وعد بلفور وتأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وتنصيب نفسها بائعاً لأرض لا تملكها لليهود؟ أم هو براغماتية قائمة على الحذر والخوف من النفوذ الإسرائيلي واليهودي في العالم، وتأثير هذا النفوذ على مصالح الدول؟
تصريحات رئيسة الحكومة البريطانية، بالطبع، استفزت مشاعر الفلسطينيين، وربما مشاعر الملايين من العرب والمسلمين حول العالم، بل ومشاعر أحرار العالم جميعاً.
وربما فجَّرت مشاعر الغضب لدى الكثيرين، الأمر الذي لا يصبّ في مصلحة بريطانيا وعلاقاتها مع الشعوب العربية والإسلامية، وهو ما يعني أن الرؤية السياسية لديها قاصرة، ولا تحسب حساباً لمستقبل علاقاتها مع الشعوب العربية والإسلامية، وليس لديها تقدير بأن مثل هذه التصريحات والمواقف هي التي تغذّي الإرهاب، وتخلق أرضية خصبة له لينمو وينتشر ويدمر.
لكن، دعونا نكُن صريحين، ونحاول أن نسبر أغوار السياسة البريطانية ومكامن العلل في هذه السياسة، ونسأل: هل تقيم بريطانيا، أو غيرها من دول العالم، أي اعتبار لشعوب ضعيفة، مهزومة، فقدت تأثيرها على السياسة العالمية؟ بل وانشغلت في الخلافات والصراعات الداخلية، ووقفت بعضها في خندق معادٍ لدول عربية وإسلامية شقيقة؟ هل يحترم العالم الضعفاء؟ أم يحترم الأقوياء الذين ينجحون في حشد الطاقات جميعاً لخدمة قضاياهم، كما تفعل دولة الاحتلال؟
لماذا يجب على بريطانيا أن تحترم الفلسطينيين والعرب، وهم الذين يعجزون حتى عن صياغة مشروع وطني، ويعجزون عن تجميع الجهود في مواجهة المخاطر والتحديات والأمراض التي تنخر في جسم هذه الدول؟
لقد أخذت رئيسة الوزراء في بريطانيا قرارها بدعم إسرائيل، وفي إدارة ظهرها للقضية الفلسطينية التي تمثل ضمير الأمة ووجدانها، وتعلم رئيسة الوزراء تمام العلم أن وعد بلفور كان جريمة تاريخية لا تغتفر، وكان عملاً يمثل انحطاطاً أخلاقياً لم يسبق له مثيل في التاريخ.
ويتكرر هذا الانحطاط في السياسة البريطانية في التأكيد عليه، بل والافتخار بصدوره، في عبارات نفاق واضحة تجاه الاحتلال وحليفته الولايات المتحدة.
فهي لا ترى في العالم الإسلامي إلا التخلف والتمزق والتراجع، وترى تصرفات حكامها الذين لا يخدمون قضايا شعوبهم، فضلاً عن خدمة القضية الفلسطينية. فلماذا لا تنافق للاحتلال وهو الذي يملك مفاتيح كثيرة في العالم؟ ألم تتقرب دول كثيرة من الولايات المتحدة من خلال التمسح على أعتاب إسرائيل، وتنفيذ كل ما يرضيها من سياسات؟
تدرك رئيسة الوزراء البريطانية أن القضية الفلسطينية أصبحت يتيمة، وأن العرب والمسلمين، حكاماً وشعوباً، تخلوا عنها إلى حد كبير، بل إنهم لا يترددون عن إظهار تذمرهم من هذه القضية التي استهلكت طاقاتهم وقدراتهم، وأصبحت عبئاً عليهم، كما عبّروا عن ذلك بأكثر من طريقة وفي أكثر من موقف، بل إن أصحاب القضية أنفسهم يعجزون عن توحيد صفوفهم، وعن الخروج من دائرة الخلافات والصراعات الداخلية، والتوحّد في وجه الاحتلال.
الخوف
لكن هناك نظرية أخرى تقول: إن بريطانيا (العظمى) تخاف من نفوذ الإسرائيليين واليهود في العالم، وتحسب ألف حساب لقدرتهم على تحطيم الشخصيات وإسقاط الحكومات وتعطيل مصالح الدول.
وتعلم رئيس الوزراء البريطانية أن بلادها لا تستطيع أن تقف في وجه إسرائيل وحلفائها في العالم، فضلاً عن نفوذ الجالية اليهودية في بريطانيا وتغلغلها في الأحزاب السياسية هناك، وتأثيرها على سياسات الحكومة، أياً كان الحزب الذي يحكمها.
فهل من المنطق أن تتصرف دولة (عظمى) مثل بريطانيا بدافع الخوف من إسرائيل وحلفائها في العالم تجاه القضية الفلسطينية؟
بالتأكيد تلعب المصالح والحرص على تحقيقها دوراً في رسم السياسات، ولا أظن أن رئيسة الوزراء البريطانية ترددت، ولو للحظة واحدة، في الإعلان عن فخرها بوعد بلفور ودورها في تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين، رغم أنها تدرك، في قرارة نفسها، وفي سياقات التحليل العلمي والمنطقي، أن هذا الوعد هو عمل مخزٍ ومخجل.
ولو لم يكن العالم في الوقت الراهن يعيش في ظل نظام القطب الواحد، والاستعلاء الإسرائيلي المدعوم أميركياً في العالم، والسعي الدؤوب إلى الهيمنة السياسية على المنطقة بأسرها، بل والهيمنة على السياسات العالمية، ولو لم تشعر رئيسة الوزراء بالخوف على مصالح بريطانيا، ولو كانت العدالة هي التي تسود العالم، لقالت في خطابها: إن بريطانيا تخجل من هذا الوعد، وستعمل على التراجع عنه، وتعويض الشعب الفلسطيني عن الآلام والمعاناة وعمليات التهجير والإبادة التي تعرض لها قرناً مرّ على صدور هذا الوعد.
كما ستعمل على مساعدة الشعب الفلسطيني على استرداد حقوقه كاملة.
ولكن ذلك لم يحدث، فهل ستقول بريطانيا كلمتها المنصفة في يوم من الأيام بحق الشعب الفلسطيني، وبحق الوعد العجيب الذي أصدرته بتمليك فلسطين لليهود؟
المشهد الفلسطيني ما زال حافلاً بالأحداث، وما زال هناك الكثير مما يخبئه المستقبل حول مصير الشعب الفلسطيني وواقعه، وما يقال في الوقت الحالي عن تصفية القضية، ربما يكون بحكم التقييم العقلي.
إلا أن منطق التاريخ يقول: إن الظلم لا يمكن أن يستمر، وإن افتخار رئيسة وزراء بريطانيا بوعد بلفور وتأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين ما هو إلا مؤشر على أن السياق هو لصالح الهيمنة الإسرائيلية، وأنه ما زال هناك المزيد من الظلم والقهر سيعيشه الشعب الفلسطيني، بل وستعيشه شعوب المنطقة في ظل هذه الهيمنة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.