إذا كانت البكتريا لا تمتلك جهازاً عصبياً فكيف كوّنت الذاكرة الخاصة بها؟ وكيف ورثت هذه الذاكرة للأجيال القادمة؟!
سنتخيل أنفسنا داخل خلية بكتيرية لنرى عن قرب كيف يعمل هذا النظام، المعروف أن البكتريا كائن متطفل في أحيان كثيرة على النبات والحيوان والإنسان، لكن هل هناك كائن آخر يمكن أن يتطفل على البكتريا؟ الإجابة هي نعم، يوجد بعض الفيروسات المتخصصة في مهاجمة البكتريا تسمى بكتريوفاج.
هذه الفيروسات لها مستقبلات على سطح الخلية البكتيرية التي ترتبط بالفيروسات؛ حيث تقوم بحقن الحمض النووي الخاص بها داخل البكتريا؛ ليرتبط الحمض النووي للبكتريوفاج بالحمض النووي للبكتريا، وهنا يبدأ الفيروس بالتضاعف عشرات المرات مسخراً كل موارد البكتريا لصالح تضاعفه، وعندما يتكون عدد كبير من الفيروسات داخل البكتريا تنفجر الخلية البكتيرية وتتحلل وينطلق منها مئات الفيروسات لمهاجمة خلايا جديدة، وهكذا دواليك.
من أجل هذا كله كان على البكتريا تكوين جهاز مناعي لمهاجمة هذا الخطر، يتمثل هذا الجهاز في مجموعة من الإنزيمات تسمى إنزيمات القصر، تتميز بالقدرة على معرفة تتابعات معينة من الحمض النووي، تتحد بها وتقطع الحمض النووي عند هذه التتابعات، هذه الإنزيمات عند محاولة الفيروس حقن حمضه النووي تتجه بسرعة له، وتقوم بتقطيع هذا الحمض عند تتابعات معينة إلى أجزاء صغيرة عديمة القيمة، لا تستطيع أن تتحد بالحمض النووي للبكتريا.
والسؤال هنا: لماذا لا تستطيع هذه الإنزيمات مهاجمة الحمض النووي للبكتريا؟
الإجابة بسيطة وهي أن المواقع التي تتعرف عليها الإنزيمات في البكتريا تكون مرتبطة بمجموعة ميثيل؛ لذلك لا تستطيع الإنزيمات التعرف عليها.
هذا النوع من المناعة يسمى مناعة غير محددة؛ لأن البكتريا لا تستطيع تذكر أنها قابلت هذا البكتريوفاج من قبل لو تعرضت له مرة أخرى.
والسؤال هنا: هل تمتلك البكتريا مناعة محددة تتذكر بها أنها قابلت هذا البكتريوفاج من قبل فتقوم بتمزيقه في المرة الثانية بشراسة وسرعة كبيرة؟
إذا قمت بدراسة علم المناعة في الإنسان ستجد أن المناعة تنقسم لنوعين:
الأول: مناعة غير محددة يعني أنها تقتل كل من يقابلها من كائنات غريبة دون تمييز الحمض الموجود في المعدة مثلاً، والقادر على قتل كثير من البكتريا والفيروسات دون تمييز.
والنوع الثاني من المناعة هو المناعة المحددة أو المناعة المكتسبة التي تستهدف كائناً معيناً تتعرف عليه قبل أن تقتله، وتتذكر أنها قابلت هذا الكائن المتطفل من قبل، يعني أن هناك في جسمنا أجساماً مضادة وخلايا تائية بملايين الأنواع، كل نوع منها متخصص في قتل بكتريا أو فيروس معين لا غير، وهذه المناعة تتميز بأنه يلزم لتكوينها أن تكون تعرضت سابقاً للبكتريا أو الفيروس، وفي المرة الأولى سنتعرف على البكتريا، لكن فبعد المرة التالية سنكون مستعدين للمهاجمة بسرعة وقوة، وهذا ما يميز المناعة المحددة أو المكتسبة عن المناعة غير المحددة السرعة والقوة والذاكرة؛ حيث يعرف جهاز المناعة أنه قابل هذا الفيروس، أو هذه البكتريا من قبل .
هل يمكن للبكتريا أن تمتلك جهازاً مناعياً متطوراً محدداً يمتلك ذاكرة مثل الموجود في الإنسان؟
الإجابة المنطقية لا؛ لأن البكتريا بدائية جداً كيف يمكنها أن تتذكر وهي لا تمتلك جهازاً عصبياً؟! لكن الإجابة الحقيقية هي نعم!! البكتريا تملك هذا ذاكرة قوية تقوم إنزيمات كاس بقطع الحمض النووي للبكتريوفاج المهاجم للبكتريا، وتقوم بدمج قطع معينة منه داخل الحمض النووي للبكتريا في تتابعات تدعى كرسبر، وفي المرة التالية التي يهاجم فيها الفيروس تقوم البكتريا بتذكره بأن تأخذ نسخاً من القطع التي احتفظت بها في المرة السابقة، وتطابقها بالحمض النووي للبكتريوفاج، فإن وجدت تطابقاً قامت انزيمات كاس بتمزيق الفيروس (البكتريوفاج ) بسرعة وشراسة.
البكتريا تستطيع التذكر بعد أن كونت الذاكرة الخاصة بها مذهل صحيح؟ الأغرب من ذلك أنها تستطيع توريث هذه الذاكرة للأجيال القادمة من البكتريا، أي تستطيع توريث المناعة المكتسبة وهو شيء لا يستطيع جسم الإنسان فعله.
على الرغم من شدة تعقيد الجسم البشري، نحن لا نستطيع توريث المناعة المحددة للأجيال القادمة.
كل هذه الحقائق ربما تعطينا فكرة عن أننا لسنا الوحيدين المتميزين بقدرات خاصة من بين المخلوقات الأخرى، وتجعلنا نعيد النظر في قدراتنا المحدودة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.