تنازلات الخرطوم في الطريق لرفع العقوبات الأميركية

منذ أن أعلنت الإدارة الأميركية تخفيف العقوبات على السودان في السادس من أكتوبر/تشرين الأول تبارت جهات عديدة داخل السودان وخارجه في نسبة الفضل إليها بل إن بعض الدول العربية كذلك أطلقت ادعاءات جهيرة أنها هي التي دفعت الولايات المتحدة لتتخذ تلك الخطوة، لكن أحداً لم يذكر الدور الذي اضطلعت به الأجهزة الأمنية لنظام البشير التي ظلت وثيقة الصلة بالمخابرات الأميركية منذ مطلع هذه الألفية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/20 الساعة 04:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/20 الساعة 04:30 بتوقيت غرينتش

"إن الخطوة إقرار بالتصرفات الإيجابية المتواصلة للسودان.."

على مدى تلك الشهور وضعت إدارة باراك أوباما خطة تحرك لحسم الملف السوداني خلال ما تبقى من ولايتها، على ذات نهجها الذي اتبعته مع كل من كوبا وإيران، لكنها لم تتمكن أبداً من أن تراقص الخرطوم فقد ظل الجانب السوداني جامداً ومتبلداً وغير مدرك لحقيقة توجهات أوباما، لولا دفع من زعماء ومسؤولين أفارقة أكدوا لأوباما استعداد السودان لمضاعفة الجهود لإنهاء النزاعات المسلحة وتحقيق الوفاق الوطني.

هكذا، وهو يهم بمغادرة البيت الأبيض، بعث الرئيس باراك أوباما، برسالة إلى الكونغرس أوضحت التقدم الذي حققته الخرطوم وأشارت إلى: "تراجع ملحوظ في الأنشطة العسكرية مع تعهدات بالإبقاء على حالة وقف القتالات في بعض مناطق النزاع" كما عرض أوباما "جهود الخرطوم في تحسين عمل المنظمات الإنسانية في البلاد، وإلى تعاونها مع واشنطن في التعامل مع النزاعات الإقليمية والتهديد الإرهابي" وفي منتصف يناير/كانون الثاني 2017 أعلن البيت الأبيض رفعاً جزئياً للعقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان.

منذ أن أعلنت الإدارة الأميركية تخفيف العقوبات على السودان في السادس من أكتوبر/تشرين الأول تبارت جهات عديدة داخل السودان وخارجه في نسبة الفضل إليها بل إن بعض الدول العربية كذلك أطلقت ادعاءات جهيرة أنها هي التي دفعت الولايات المتحدة لتتخذ تلك الخطوة، لكن أحداً لم يذكر الدور الذي اضطلعت به الأجهزة الأمنية لنظام البشير التي ظلت وثيقة الصلة بالمخابرات الأميركية منذ مطلع هذه الألفية.

اتخذت العلاقة مع الولايات المتحدة صبغة استخباراتية خالصة؛ إذ تولت إدارة شأنها أجهزة المخابرات في البلدين.

كانت علاقة الأميركيين مع وزارة الخارجية السودانية واهية، على حد وصف "روبرت أوكلي" الدبلوماسي المتقاعد الذي عمل مساعداً للمبعوث الرئاسي الأميركي السيناتور دانفورث: "إن التعاون الاستخباري كان له تأثير إيجابي على مجمل العلاقات بين واشنطن والخرطوم. لقد كانت علاقتنا مع وزارة خارجيتهم واهية والعلاقة الوحيدة المؤسسة بيننا كانت عبر القنوات الاستخباراتية؛ لأن جماعتنا كانوا يعملون معهم مباشرةً..".

نحو خواتيم مارس/آذار 2017 طار رئيس جهاز الأمن والمخابرات السوداني "محمد عطا المولى" إلى واشنطن؛ حيث التقى مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية مايك بومبيو ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI) جيمس كومي واكتفت وسائل إعلام محلية بالقول إن (عطا) بحث مع الأميركيين القضايا الأمنية والسياسية والإنسانية في المنطقة.

لم يكن "محمد عطا" هو السابق الهادي إلى التواصل مع المخابرات الأميركية فقد كشف تقرير نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأميركية نحو منتصف العام 2005 طبيعة التنسيق الأمني بين الطرفين الذي بدأ مستهل الألفية الثالثة وتصاعد إلى أن أرسلت (CIA) طائرة خاصة نقلت مدير المخابرات السودانية "صلاح قوش" لاجتماع سري في واشنطن في أبريل/نيسان من العام 2005.

مدى رئاسته لجهاز الأمن السوداني لم تتوفر لـ"صلاح قوش" أي تصريحات حول طبيعة علاقاته بالأميركيين سوى حديث مقتضب أدلى به لصحيفة التايمز قال فيه: " لنا شراكة قوية مع الـCIA، المعلومات التي وفرناها لهم كانت ذات فائدة كبيرة للولايات المتحدة " وفي أكتوبر من العام 2004 قدمت مجموعة الخدمات البحثية غير الحزبية في الكونغرس تقريراً جاء فيه: "إن صلاح قوش ومسؤولين سودانيين آخرين أدوا أدواراً مفتاحية في إحباط هجمات ضد مدنيين..".

إلى أصل هذه الأدوار المفتاحية أشارت المسؤولة السابقة في إدارة الرئيس جورج بوش جانيت ماغي ليغوت في معرض تعليقها على تخفيف الولايات المتحدة العقوبات عن السودان، وإذ رأت "جانيت ماغي ليغوت" أن استمرار العقوبات الأميركية على السودان طوال هذه الفترة كان أمراً غير عادل، فقد قالت: "كان هناك تعاون جيد بين (الإف بي آي) والسلطات السودانية وهذا التعاون يعود لسنوات خلت، مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، لم يكن رئيس المخابرات السودانية "محمد عطا" هو أول من أطلق هذا التعاون، "يحيى حسين" و"المهدي" كانوا قبله قد أطلقوا هذا التعاون ما بين الولايات المتحدة والسودان في المجال الاستخباراتي ومجال مكافحة الإرهاب وكنت جزءاً من إدارة جورج بوش في ذلك الوقت..". وأضافت: "السودانيون ساعدوا الولايات المتحدة بشكل كبير، لقد ساعدوا إف بي آي وسي آي إيه في القبض على 160 من عناصر القاعدة مباشرة بعد الحادي عشر من سبتمبر، وبعد ذلك ساهموا في إلقاء القبض على مئات من المتطرفين، دور السلطات السودانية كان إيجابياً على الدوام..".

كان تعاون الخرطوم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كبيراً بدرجة أذهلت الأميركيين فقد نقلت لوس أنجلوس تايمز عن مسؤول أميركي ذي صلة بهذا الشأن قوله: "إنهم لم يدلونا فقط على الأشخاص "السيئين" ولكنهم ذهبوا وأحضروهم لنا، يا للعنة، الفرنسيون لن يفعلوا لنا ذلك!".

في الطريق نحو إقامة مشروعه الإسلامي أراد الشيخ الترابي أن يبني بيتاً دعائمه أعز وأطول فأثبت في دستور العام 1998 الفقرة (17) مادة السياسة الخارجية: "تدار السياسة الخارجية لجمهورية السودان بعزة واستقلال وانفتاح وتفاعل" وفقاً لرؤى إسلامية تحررية دفعت نظام الإنقاذ منذ شهور الانقلاب الأولى ليتبنى مواقف شكلت من بعد مستقبل البلاد لمدى يقارب ثلاثة عقود، إذاً فقد اختار السودان موقعه في أزمة الخليج 1991 جنباً إلى جنب مع دعاة الاستقلال والعزة معادياً لأميركا ومجانباً لدول الخليج التي توترت علاقاتها معه على نحو متصاعد إلى حين انفراجة يزعم وزير الخارجية مصطفى عثمان إسماعيل أنه عرابها.

والحق أن العلاقات الخارجية التي نص دستور العام 1998 على أن تدار سياستها بعزة واستقلال قد شهدت انفتاحاً لأول فور خروج الشيخ الترابي من سلطة الإنقاذ، لكن تلك العلاقات قامت منذئذٍ على نحو ما وصف وزير الخارجية السوداني لصحيفة الشرق الأوسط لقاءً جمعه بولي عهد دولة الكويت ونقلت الصحيفة في أكتوبر 2004 عن "عثمان إسماعيل" تفاصيل اللقاء الذي ضم مسؤولاً سودانياً في الكويت لأول مرة منذ حرب الخليج الثانية، مع ولي العهد "سعد العبد الله" قال: "إن الشيخ سعد تعمد مقابلتي بفتور وصمت، حتى فاجأته بقولي: (احنا دول الضد.. طال عمرك) فانفجر الشيخ سعد ضاحك..".

منذئذٍ مضت علاقات السودان بدول الخليج على ذات الطريق الذي خطه الوزير إسماعيل ففي مطلع أغسطس/آب 2013 منعت السلطات السعودية طائرة الرئيس عمر البشير من العبور عبر أراضيها في طريقه إلى إيران، لكن البشير، بالرغم من ذلك، ظل شديد الإلحاح على خلق صلة من نوع ما بالإدارة السعودية حتى إذا صعد الملك سلمان إلى العرش، انخرط البشير في حلف عسكري يقود حملة عسكرية على اليمن وأضحى منذئذٍ شديد الارتهان للإرادة السعودية لا يغيب عن زيارة الرياض إلا أياماً معدودات حتى إنه زار السعودية والتقى مسؤولين فيها نحواً من ست عشرة مرة في الفترة بين يناير/كانون الثاني 2015 إلى أغسطس/آب 2017 وهو رقم قياسي بالنسبة لزيارة رئيس دولة لبلد آخر وهكذا أكّد الإعلام السعودي أن تخفيف العقوبات الأميركية عن السودان أحد إنجازات القيادة السعودية نظير امتثال السودان للنصائح السعودية في إدارة علاقاته الخارجية، لا سيما مع إيران.

إذاً فقد انصاع نظام البشير لتوجيهات السعوديين فقطع علاقاته الدبلوماسية بإيران وانخرطت قواته تقاتل بحماسة في اليمن ضمن التحالف الذي تقوده السعودية، في مقابل وعود بأن تتولى هذه الأخيرة ترميم علاقاته مع الأميركيين ودفعهم لرفع العقوبات، لكن ما يدحض الادعاءات السعودية في هذا الشأن هو أن إدارة الرئيس أوباما هي التي أوصت برفع العقوبات في وقت بلغ فيه الفتور بينها وبين السعوديين منتهاه، فلم يكن ذلك أمراً أحدثته إدارة الرئيس ترامب الذي يدّعون أن بإمكانهم التأثير عليه.

على مدى عقدين من الزمان ظلت العقوبات قائمة ولم يغادر السودان القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، كان ذلك أمراً غير مفهوم حتى للأميركيين الذين عملوا مع الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، وفي محاولتها للتفسير قالت "ماغي ليغوت" التي كانت تعمل في إدارة الرئيس بوش: بدأت محاولات في ذلك الوقت لشطب السودان من قائمة الإرهاب لكن لم تتمكن الولايات المتحدة من ذلك لأسباب داخلية خاصة لم يكن الأمر يتعلق بالسودان كانت هنالك عوامل سياسية داخلية خاصة بأميركا.. وجود السودان داخل تلك القائمة كان أمراً غير عادل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد