يقودنا إصرار قيادة الأحزاب الكردية على الاستفتاء من أجل رفع سقف المطالبة الكردية في التفاوض مع بغداد، أو تدويل المناطق المتنازع عليها، إما ضغطاً لحل ملفات اقتصادية فقط لا علاقة لها بالتقسيم، وإما سعياً حقيقياً نحو الانفصال بعد التدويل، هذا التدويل الذي لا يمكن لبغداد أن تطالب برفضه صراحة لحساسية ضعف موقفها الداخلي السياسي والاقتصادي، ويمكن للكرد أن يطالبوا به مؤقتاً بدلاً من الانفصال.
أي الاحتمالين هو الحق بينهما؟ لا حق ولا باطل؛ فالسياسة الحكيمة لا تبنى إلا على احترام القانون والدستور، والاستعداد بافتراض وقوع أي من الاحتمالات، وفي القضايا المصيرية لا يصلح للقيادة إسقاط الاستعداد لأي احتمال من الحسابات.. لذا، لابد أن يكون الجميع على حذر فقد تكون هناك حوادث أمنية أو عسكرية ذات طابع انتقامي أو قومي أو عنصري.
لا يمكن لخطوة الاستفتاء لوحدها حل الأزمة الكردية أبدًا.. الخيارات المتاحة خيارات مرتهنة بالشرعية الدولية والتأثيرات الإقليمية. الورطة التي وقع فيها قادة الأحزاب الشيعية في العراق بسبب استفتاء كردستان، هي نفس ورطة العرب السنة لأنهم يبحثون عن خيارات قائمة بأشخاص "مجرّبة". المواطن الشيعي أصبح لا يشتري حكايات المظلومية والتضحية على الدوام. إن الانفصال ثم الاستقلال في النهاية سيكون بتعايش خيارات قومية وفكرية ومجتمعية لم تعد قادرة على دمج بعضها، وأصبحت تعترف بمبدأ الفصل المنطقي لكل واحد منها.
أعظم ما قد خرج به الكرد من مغامرة الاستفتاء، لم ينقسموا بين خندق "نعم" وخندق "كلا" وإنما راهنت كل الأطراف الحزبية على خيار "نعم". ونجحوا في صناعة أكثرية شعبية من أجل صراع هوياتي أكثر مما هو ثوري انقلابي أو تمرد في الوقت المناسب. المشكلة أن مسألة المبادرة السياسية قد تحولت إلى عقدة خاصة إذا خرجت من مكتب السيد مقتدى الصدر، حيث تعمل الأقلام المريضة على إجهاضها والتشويش عليها، فالتيار الصدري تيار شعبي واسع، لديه تاريخ متعدد المراحل، جعله -على الأقل بصورته العراقية بعد 2003- أحد أهم التيارات السياسية الشعبية القليلة المعروفة لدى كل الدول. وقد مارس التيّار ذلك الدور بقوة منذ عام المطالبة بالإصلاح 2015 سياسياً وثقافياً فى مراحل مختلفة، على نحو شكل أحياناً خرائط التحالفات السياسية العراقية، كما أن بعض الشخصيات السياسية قد أسس حراكاً سياسياً وأخذ موقعاً سياسياً شديد التميز مثل حركة إرادة بقيادة النائب حنان الفتلاوي وحزب المؤتمر بقيادة آراس حبيب وحركة الحل بقيادة النائب محمد الكربولي والمشروع العربي لخميس الخنجر ومبادرة رئيس الوقف السني الشيخ الهميم..، وبالتالي أصبحت المبادرة السياسية جزءاً من تصوراتها لنفسها وللمجتمع، بحيث أصبحت كمصلحة وطنية، تمثل أولوية، وتثير حساسيات، وتتعرض أحياناً للتهديد، ولا تبتعد أبداً عن الأذهان.
الأكثر من ذلك، أن دور المبادرة السياسيّة أصبح يمثل أهمية عملية في حل الأزمات الكبيرة، فقد ساهم ذلك الدور فى دعم قدرة الحكومة الاتحادية على الحفاظ على أمنها القومي وعلى التعددية التوافقية في أحيان كثيرة، أو تقليص التأثيرات السلبية التي يمكن أن تهدد وحدة العراق، وهنا يمكن الثناء على دور المبادرات التي رعتها المرجعية بالنجف. وقد مثلت بعض المبادرات السياسية قدرتها على التأثير الإقليمي كعنصر قوة أو "مصالحة" في إدارة علاقاتها مع القوى الدولية الكبرى. كما كانت المبادرات السياسية الواعية أحد عناصر تدعيم شرعية البرلمان العراقي والحكومة العراقية وهذا ما يغلب على مبادرات السيد عمار الحكيم وحزب التغيير الكردي والحراك المدني. وبقدر ما شكلت تلك المبادرات عنصر قوة للعراق، قاد البعض منها إلى مخاطر خارجية وأحياناً سلوكيات مربكة أو "مواقف مخابراتية" أو أفسدت علاقات العراق بجواره السني والعربي، إلا أن مسألة المبادرات التي أطلقتها قيادات مثل الدكتور فؤاد معصوم والدكتور علاوي والجبهة التركمانية والدكتور صالح المطلك حيث ظلت تتسم بالجدية الشديدة بالنسبة لأزمة الاستفتاء.
لقد نوقشت مسألة استفتاء كردستان على نطاق واسع داخل العراق، وتم تقديم مبادرات متنوعة الرؤى والحلول غالبها يستند على "الدستور" . لكن مبادرات الاستفتاء كانت نقطة فارقة، فقد واجه العراق موقفاً شديد التعقيد، قاد إلى تقدير موقف عبر عنه الدكتور العبادي بأن "هناك خرق للدستور والقانون الاتحادي" وأدى إلى إثارة أسئلة حول ما إذا كان يجب أن تفكر قيادات كردستان بطريقة مختلفة فى إدارة علاقاتها مع إيران وتركيا وبغداد وبعض الأطراف الدولية، أو إدارتها هي ذاتها لمثل تلك الأزمات إعلامياً وسياسياً واقتصادياً ولا سامح الله عسكرياً، أو بأدوات مخابراتية أخرى.
لقد بدأت كردستان تظهر بالفعل بعض الأنياب تجاه أطراف مختلفة، وفقدت من السيطرة على مسار الأزمة، بل يبدو بوضوح أنها قد خسرت الفرصة بصناعة لوبي دولي ساند لها. وليس من الواضح ما إذا كانت كردستان ستغير توجهاتها الراهنة مستندة على المبادرات التي خرجت خلال الأيام الماضية. ربما الكل يتوقع أن تمر المناطق المتنازع عليها بأوقات عصيبة حتى تكتمل عملية إجهاض استفتاء كردستان أو حصارهم داخل حدود الإقليم التي أقرها الدستور قبل 2003 من الشمال العراقي. حكومة العبادي من شأنها أن تتعامل مع تحديات لا تعد ولا تحصى في الأيام القليلة المقبلة، سواء في ظل حتمية إجراء مفاوضات معقدة مع دول الجوار للضغط المباشر على قادة أحزاب كردستان، أو الدعوات المتجددة من أجل أعلان الحد العسكري في خطة فرض القانون قد استعد لها مجلس الأمن الوطني العراقي. إن الأسوأ لم يأت بعد بالنسبة لخيار كردستان الاستفتاء بعيداً عن الشرعية الإقليمية والدولية، وأن المواطن الكردي سيشعر بالتأثير الحقيقي للصدمة قريباً في ظل ارتفاع نسب البطالة وارتفاع أسعار البضائع وتدهور قطاع السياحة والفندقة. وأن الاقتصاد الكردستاني قد يدخل مرحلة "الصدمة" إذا صح وعيد طهران وأنقرة بمنع تصدير نفط الإقليم عبرهما.
إن قرار الكرد سيكون له عواقب على المدى القصير والطويل، البداية حالة من الفوضى التي من الممكن أن تنتج عن الترتيبات الجديدة للعلاقة الإدارية بين بغداد ومحافظات الإقليم، يمكن توقع العديد من السلبيات مثل انخفاض الاستثمارات، وتباطؤ النمو، وانخفاض الأجور، وارتفاع معدلات البطالة. وعلى المدى الطويل، لن يكون لدى المنتجات الكردية الزراعية والنفطية والصناعية درجة الولوج نفسها إلى السوق العراقية الاتحادية، الأمر الذي يعني انخفاض الصادرات، وانكماش الاستثمارات الأجنبية، وهو ما يعني بشكل عام أن كردستان ستصبح أفقر..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.