حين قال البشلاوي ما لم يتصوره مهدي عاكف!

مصرُ في حاجةٍ لأن يفهمَ أهلُها خطورة الاستبداد، وأهمية الحرية! بنفس القدر الذي يحرصون فيه على ختم القرآن في ليالي رمضان.. مصرُ في فاقة حتى يعي مواطنوها وعورة الفساد، وأهمية الانضباط والإتقان في العمل بنفس الحماسة التي يتناقلون بها رسائل التواصي على صوم الأيام القمرية، فضلاً عن متابعة القنوات الدينية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/09/25 الساعة 07:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/09/25 الساعة 07:06 بتوقيت غرينتش

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد..

فقد ساقني القدرُ لمشاهدةِ حديثِ المهندس "محمد البشلاوي" في تأبين البطل "مهدي عاكف"، الذي استضافه الإعلامي الألمعي "محمد ناصر".

والبشلاوي -لمن لا يعرفه- هو أحد أعضاء أمانة القسم السياسي في "الإخوان المسلمين"، ويقيمُ حالياً في منفاه الاختياري بإسطنبول بعد أن حكمَ عليه نظامُ الانقلاب في مصر بالإعدام، قال البشلاوي: إن عاكف عارضَ ترشيحَ الإخوان لمقعدِ الرئاسة؛ لأنَّ مصر لم تكن قد دخلت بعدُ إلى مرحلة المجتمع المسلم!

ربما لم يخطر على بال الأستاذ "البنا" نفسه ولم يَعِنّ للُبِّهِ، وهو يصوغُ ببراعةٍ حُلُمَهُ الفكريّ، ويصبغُ بيراعِهِ مشروعَهَ الدعويّ أن يوماً قد يأتي ليفسرَ فيه أحدُ تلامذتِهِ حُلُمَه الجميلَ بهذه الطريقة المزعجة! والبنا أراد أن يقول: إنّ التغييرَ لن يأتيَ قهراً ولا قسراً من أعلى إلى أسفل! ولن ينزلَ على الأمَّة المجدبة كالغيثِ ليحييَ الأرضَ من بعد موتِها، وإنَّما يبدأُ التغييرُ من كل فردٍ فينا (إنَّ اللهَ لا يغيرُ ما بقومٍ حتَّى يُغَيِّرُوا ما بأنفُسِهِم) صدق الله العظيم.

إنّ مصرَ -يا أستاذ بشلاوي- مجتمع يعرفُ الإسلامَ ويمارسُهُ منذ قرون، ربما يمارسه بانتقائية.. ربما يغفو أو يغفل عنه حيناً، ثم يعودُ ليفزعَ إليهِ في أكثرِ الأحايين.. لكنّ هذا لا يجعله مجتمعاً جاهلياً كما خاله الأستاذ سيد قطب، فنسج بعضكم على منواله!

ما ينقصُ مصر ليس الإسلام كما ظننتم.. بل الشفافية.. آليات المحاسبة.. جودة التعليم والبحث العلمي.. ثنائية السلطة والمعارضة.. سيادة القانون.

ما يعوزُ مصر ليست المساجد أو المعابد، بل المستشفيات.. المدارس.. مراكز الأبحاث.. الصحافة الحرة.. الإعلام المسؤول.. البشر وليس الحجر!

بمناسبة البشر.. كدتُ أستشيطُ غضباً حين وقفَ "عادل الجبير" وزير الخارجية السعودي، قبل يومين في الأمم المتحدة؛ ليقول بلسانٍ عربيٍ ولكنةٍ متأمركة: "أحملُ إليكم رسالة دولةٍ جعلت الإنسان أولاً"!! وهو يعلم أنّ الناسَ تعلمُ أنهُ لا يصدقُ ما يقول!

ولكني تعزّيتُ بموقفَ مهاتير محمد حين ألقى -منذ سنوات- كلمةً في مؤتمر إسلامي عُقِدَ بالعاصمة الماليزية كوالالمبور، فتكلم عن البنية التحتية وفرص العمل والتطور التكنولوجي والصناعات الحديثة.. قال له بعضهم ممتعضاً: لماذا لم تتحدث عن الإسلام؟ فردَّ الرجلُ بكل ثقة: بل كنت أتحدث عن الإسلام!

وتذكرت قصة أحد الصناع الصينيين حين أعدّ مأدُبَةَ عشاءٍ لزبائنه من التجار في الدول العربية، ففوجئ برفضهم لتناول اللحوم، وحين سألهم عن السبب: قالوا لأنها ليست "حلالاً"! فاندهش الرجلُ وتساءل: كيف يمنعون أنفسهم من أكل اللحم الحرام!! فيما هم يطلبون مني أن أكتب على بضائعهم عبارة: "صنع في ألمانيا"!

في رمضان 2013 كان مؤيدو الرئيس مرسي يصومون النهار ويقومون الليل في "رابعة والنهضة".. لم يخالفهم المصريون في ذلك، فما جاهروا بالفطر أو قضوا لياليهم في أحضان الخمارات وعلى أرصفة البارات!

وحين وقعت المذبحة المروعة.. وجدنا من يواظب على الصلاة ويحمل المسبحة في حله وترحاله، ثم هو لا يمانعُ في الخلاصِ من بضعة آلافٍ من البشر "علشان حال البلد يمشي"!

ثم وجدنا المحجبة بل والمنتقبة تقدمُ وصلةً في الرقص المبتذل ابتهاجاً بفوزٍ مصطنعٍ ونتيجة مزيفة حصل عليها مسيحهم المخلص!

ليست مصرُ في حاجةٍ لمتفيهقٍ قشيب العمامة يمتطي صهوة المنابر ليعظَ أهلها، فالحلال بيِّنٌ والحرام بيِّن.. لكنّها في حاجة لنظام حكمٍ يعملُ من أجلها دون متشابهات "كله تمام يا فندم"!

ليست مصرُ في حاجةٍ لأسلمةِ مجتمعها، لكنّها في حاجة للتخلص من ركام العشوائية، ورماد الفوضى، وميراث الفهلوة، وموروث الروتين!

من يسيء استخدام القانون في مصر المأزومة المهزومة ليس اسمُه "أمية بن خلف".. بل ربما كان اسمُه "بلال"!
من يكسرُ إشارة المرور ليلقيَ بالقمامة في الشارع.. لا يفعل هذا بعد خروجه من "دار الندوة"، بل ربما بعد فراغه من صلاة الجمعة!

مصرُ ليست أبا لهب أو أبا جهل، في مقابل عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب، بل هي سائقُ الميكروباص المدمنِ على استخدام آلة التنبيه، رغم كونه لا يملُّ من تشغيل شريط "لماذا لا تصلي"! وهي سائقُ الشاحنة المستعد لأن يدهم سيارتك إذا تجاسرت وسابقته على أحد الطرق السريعة، بيد أنه من أكثر الناس حرصاً على أن تتشح زوجته "متواضعة الجمال" بالسواد حتى لا تكون فتنة!

مصرُ في حاجةٍ لأن يفهمَ أهلُها خطورة الاستبداد، وأهمية الحرية! بنفس القدر الذي يحرصون فيه على ختم القرآن في ليالي رمضان.. مصرُ في فاقة حتى يعي مواطنوها وعورة الفساد، وأهمية الانضباط والإتقان في العمل بنفس الحماسة التي يتناقلون بها رسائل التواصي على صوم الأيام القمرية، فضلاً عن متابعة القنوات الدينية.

فيومَ أن يصبحَ للمعلّم مشفى محترم تقدم له فيه الخدمات الطبية بنفس المستوى الذي يحصل مع ضباط الجيش.. وحين تطيرُ الفتاةُ فرحاً؛ لأن العريس الذي تقدّم إليها يرتدي "روب" المحاماة بعصامية ولم يرث شارة القضاء عن أبيه أو جده.

عندما ينحني الناس تبجيلاً وتوقيراً للمعلّم وليس خضوعاً وتذللاً أمام ضابط الشرطة.. وحتى يكفّ الناس عن التزلف الرخيص لكل صاحب سلطة أو سلطان أو صولجان.

عندها وعندها فقط.. يمكن أن يتغير حال بلادنا كما تمناه وحلم به كل داعية ومصلح.

ربما لن يمانع مصريٌ/عربي في أن يعمل تحت إمرة مدير ياباني "بوذي" في شركة عابرةٍ للقارات، لكنه سوف يشنِّفُ آذانك بالحديث عن مفهومه للولاء والبراء إذا ذكرتَ له أنك تنوي انتخاب "مسيحي"؛ لأنه أفضل من يمثل دائرتك الانتخابية!

يسعى المصري/العربي للحصول على جواز سفر أميركي أو كندي، فيما هو يسب أميركا وبلاد الغرب "الكافرة"! ليل نهار حين "ينقح" عليه عرق الوطنية في مجالس الشقاق والنفاق.. وربما سوء الأخلاق.

إنّ الشيخ الذي يتطلع إلى منبر رسول الله ليخدِّرَ العوامَ بقولِه: "سيستمر الغلاء ما لم تتحجب النساء"، لا يقل وَضَاعَةً عن إعلاميٍ يطلُّ على الشاشات ممسكاً بصاجات التطبيل لنظام سياسي مستبد وسلطة غاشمة.

وإنّ السيدة المسنة التي تحضُّ الناس على الصبر على حاكمٍ ظالم ريثما تتحسنُ الأوضاع.. تتصاغر وتتضاءلُ لتؤدي دورَ ساقطةٍ خرجت في برنامج تليفزيوني تقول فيه إنّهَا ستُعَلُّمُ الناسَ الإسلامَ الوسطيَ الجميل!

وإنّ المثقّفَ الذي يتسربلُ بثياب الوطنية القُطْرِيّ المبهرج وهو يحملُ المباخرَ لطاغية، ثم يخرجُ على شاشات الفضائياتِ ليمارس كيد "ضرائر الحسناء".. ليس سوى راقصة تعري تخلعُ كرامتها قبلَ ثيابها!
فإذا كان ذلك الخصمُ الذي بذل النفس والنفيس، والغالي والرخيص من أجل مصر قد زلّ لسانُه حينما استفزه صحفيٌ مبتدئ فقال ما لم يكن يقصده، وصرّح بما ينقضُ صوت كل سوطٍ هوى على ظهره لأجل هذا الوطن المستلب، بينما أنت وأشباهُك تقولون بلسان الحال قبل لسان المقال، وفي كل لحظة تنتصرون فيها للاستبداد والفساد على حساب البلاد والعباد: "طز في مصر"!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد