توفي اليوم بعد صراع مع مرض اسمه العسكر
"الأستاذ"
قليلون هم من في الجيل الحالي للجماعة يعلمون هذا الاسم عنه ولا يدركون أنه اسمه الخاص، وعلى مسمى، كثيرون هم من في الجيل الحالي للشباب الثائر في شوارع المحروسة يكملون ما بدأه هو وهم يجهلون.
محظوظون هم من حضروا نقاشاً معه أو لقاء له فأدركوا أن الشباب صفة لا عمر، صفة قوامها قلب أبيض ناصع، صلد قُدَّ من مرمر، صفة قومها لا يعرفون أمراض الروح وإن مرضت الأجساد و شاخت، صفة من حملها في شيخوخته حق له أن يلقب بـ "الأستاذ".
إنه الأستاذ محمد مهدي عاكف، الثائر الأول حقاً في هذه الجماعة.
لا أفلام ملحمية تحكي قصته بعد، وإن تمت كتابة السيناريو بالفعل بمشاهد سيحسبها أطفالنا يوماً مبالغاً فيها لعظمتها، طالب شاب عفي يتتلمذ على يد شيخ بحجم محي الدين الخطيب، فيخرج من حلقات العلم الشرعي إلى معسكرات الطلاب الثائر ضد الإنكليز بجامعة عين شمس، يقود الحراك المسلح ضد المحتل عن عمر لم يبلغ الرابعة والعشرين بعد، ليرأس أهم وأقوى، وأنقى قسم في جماعة الإخوان في مهد تكوينه، ويضع له المستهدفات ويرسم له الاستراتيجيات ويؤصل فيه للقيم التي يسير عليها العمل به حتى يومنا هذا.. قسم الطلبة.
الأستاذ، لم يكمل السابعة والعشرين حتى كان محكوماً بأول إعدام له، مكافأة مبكرة من نظام مصر وخيانة مبكرة جداً من "الثورة" التي آمن بها وجند لها الطلاب من قسمه، بعد أن حُوكم بتهمة تهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف، اللواء الأهم في "ثورة" يوليو إن جاز لنا أن نسميها ثورة، أحد قيادات الجيش وأحد أعلام الإخوان، والذي أشرف بفرقته على عملية طرد الملك "فاروق" وزفه إلى سفينة "المحروسة" لتكتمل الثورة.
خيانة مبكرة ودرس أليم تأصل في وعي الأستاذ، و حقيقة أيقنها ونقلها إلى كل الأجيال التي تلته: داعي الثورة هو داعية احتلال وانقلاب فاحذروا منه،
سمعتها منه بنفسي والله شهيد في عام 2006 في أحد المؤتمرات، وكنا آنها نموج بروح الثورة وأحلامها الوردية بصور محاكمها الثورية وخطب خطبائها وخطابها الرنانة.
الأستاذ الذي كان شغله الشاغل دوماً هو الشباب لما يعرفه لهم من دور أصلي في السياسة وفي إدارة الحياة، فنذر حياته لتنظيم أكبر المخيمات للشباب على مستوى العالم بلا تمييز لشاب عربي على شاب بنغالي، فبدأ من السعودية إلى الأردن، وماليزيا، وبنغلاديش، وتركيا، وأستراليا، ومالي، وكينيا، وقبرص، وألمانيا، وبريطانيا، وأميركا.
آمن الأستاذ بقوة الشباب، وعلمنا أن القوة لم تكن يوماً هي السلاح في اليد، بل الوعي في العقل والأمان في النفس.
فحارب الإنكليزي المحتل بسلاحه وأبى أن يرفعه من غمده أبداً في أي من ليالي القبض عليه، دخل السجن وحوكم عسكرياً لكنه أبداً لم ير من العسكرية حلاً
"الحل في شباب متربي" قالها لي وأنا أسأله يوماً عن الحل المسلح لانتزاع النظام
"ظز في مصر" كانت جملة اشتهرت على لسانه الثائر الذي لا يعلم المحاباة.
وما لا يعلمه الناس أن الجملة كانت ضمن رد صريح على صحفي يعلم حقاً فكر "الأستاذ" العابر للقارات وحدود سايكس بيكو، والذي رأى الخيانة باسم القومية وباسم "مصر" لعقود.. الجملة كانت تقول "آه أقبل إن غير مصري يحكم مصر لو كان عادل وهيخلي شعبها يعيش في عدل، لو هنعيش تحت حكم مصري ظالم باسم المصرية وباسم مصر يبقى طز في مصر.. وأبو مصر.. واللي في مصر".
آمن الأستاذ أيما إيمان بالعدل، آمن بالديمقراطية وبحق الانتخاب، بحق الشباب في صوت يعبر عنهم، فكان الأستاذ هو أول "مرشد سابق" لجماعة الإخوان عقب انتهاء مدته بعد أن رفض قطعاً أي تمديد يجافي ركن "الشورى" الديمقراطي حسب رؤيته وفهمه.
لقب الأستاذ كان لحنكته وبأسه وقوة قلبه، "شايل السلم بالعرض" كما كنا نصفه ونحن بعد طلبة في جامعة عين شمس التي رأس معسكراتها المسلحة ضد الإنكليز يوماً، سلم لم يكن ليحابي ويجامل "أخاً" قبل عدو.
كانت هذة من أواخر الصور التي ظهر فيها عاكف
في 14 أغسطس/آب 2014
يقف الأستاذ بشاله الأبيض وشعره الأشيب وقلبه الشاب النابض بين من اسودت وجوههم بعكس زيهم الميري، يقف ليرفع يمناه وكأنما محيياً أخوانه و رفقائه من الشباب في الشوارع، وكأنما عمر مختار لألفيتنا يبعث، لكأنما هي إشارة، ورسالة للوداع، بصوت مختار.. و"أستاذ" يدوي فيقول:
"نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت، سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم، والأجيال التي تليه، أما أنا فإن حياتي ستكون أطول من حياة شانقي".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.