قد يبدو العنوان متناقضاً بعض الشيء، فالشريعة الإسلامية هي شأن مجتمعي موضوعي بامتياز، لكن بالفعل تبدو مسألة الشريعة بالنسبة لي شأناً خاصاً وذاتياً، ربما مثلي في هذا مثل كل الذين يؤمنون بمنظومة قيمية أو أيديولوجية ويريدونها أن تتجسد وتتمثل في حياتهم الخاصة وفي المجتمعات التي يعيشون بها بشكل مثالي أو قريب من المثالي؛ لذلك فإن كل مرة ينتهك أو يبتذل فيها هذا المفهوم وهذه القيمة من قبل إحدى الحركات الدينية أو المؤسسات العلمائية أشعر أن هذا الأمر يحمل لي شيئاً من الإهانة الذاتية.
ويمكن إيجاز خبرتي الشخصية في التعاطي مع مسألة الشريعة الإسلامية في ثلاث مراحل، أرى أن مشاركتي لها ولو بشكل موجز قد يكون ذا نفع وفائدة، خصوصاً في أوقات التيه واللايقين هذه التي تعصف بنا.
في أولى هذه المراحل كان السؤال الملح والشغل الشاغل هو كيف يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية في مجتمعاتنا حتى نتخلص من حالة التردّي والتخلف التي نعيشها فنحقق مقتضيات إيماننا من جهة، ونستعيد عافيتنا الحضارية من جهة أخرى، وهذا السؤال يستتبعه بالضرورة كيف نتصدى للقوى الخارجية وحلفائهم في مجتمعاتنا الذين يعوقون تحقيق هذا الحلم جهلا أو عمالة؟
في هذه المرحلة كانت هناك فرضية ساذجة، وهي أن هناك وضوحاً فيما تمثله الشريعة الإسلامية كنظم حياتية سياسية واقتصادية واجتماعية، وأن العائق فقط هو عائق التطبيق والتنفيذ والتصدي للعوائق، وبالتالي فكانت الأولويات حركية وتنظيمية أكثر منها فكرية ونظرية.
لكن بطبيعة الحال مع مرور الوقت اكتشفت أن الأمر ليس بهذه البساطة، وأن هناك مساحة من التنوع والاختلاف بل والتضاد فيما يُعتقد أن الشريعة الإسلامية تمثله في هذه المجالات وكذلك في آلية تجسدها كنظم ومؤسسات، وهذا ما جعلني أنتقل بعدها إلى المرحلة الثانية.
وفي هذه المرحلة شغلني سؤال ما هي إذن الشريعة الإسلامية؟ وهو السؤال التأسيسي الذي يجب أن نجيب عليه قبل أن نفكر في آليات التطبيق واستراتيجيات المواجهة، وكان الهدف في هذه المرحلة هو الوقوف على النسخة الصحيحة والحقيقية للشريعة الإسلامية من بين كل هذه النسخ المعروضة والمتعارضة، وهذا بالتأكيد فيما يتعلق بالشرائع الحياتية، أما الأمور العقدية الغيبية والشعائر التعبدية من صلاة وزكاة وحج فهي أمور تخضع للإيمان والتسليم.
لكن وللأسف مرة أخرى وجدت أن الجدل في هذه الخلافات لا ينحسم، بل وأن الزعم بأن هناك نسخة واحدة أصيلة تمثلها الشريعة الإسلامية وتجسدها كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي محدد هي فكرة قاصرة وخاطئة بالأساس، فاختلاف منهجيات الاجتهاد والاستنباط من جهة واختلاف السياقات التي يجتهد في ضوئها المجتهدون من جهة أخرى جعلت من المستحيل أن تحتكر إحدى النسخ مدلول الشريعة الإسلامية لذاتها، وتنزعها عن النسخ الأخرى.
وخلال الانشغال بإجابة سؤال المرحلة الثانية عن ماهية الشريعة الإسلامية ظهرت إشكاليات وجدليات متعددة حول الثابت والمتغير والإلهي والبشري والتاريخي والمطلق في تعريف الشريعة الإسلامية، وهي الإشكاليات التي نقلتني إلى المرحلة الثالثة، وهي المرحلة التي يشغلني فيها حالياً سؤال محدد: في ظل انقطاع الوحي وختم النبوة، وفي ظل غياب العصمة لفرد أو مؤسسة يكون لهم حق احتكار تفسير النصوص الدينية وتنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع والحوادث، ما هي الآليات التي يجب اتباعها لمقاربة النص الديني؟ وما هي السياقات التي يجب توفيرها لضمان أن يحقق الشرع الإلهي وظيفته في الإرشاد والهداية، وألا يساء استخدامه عمداً أو خطأ لتحقيق أهواء ومصالح بعض البشر؟
وفي ظل محاولة إجابة هذا السؤال هناك عدة ملاحظات تأسيسية، أهمها:
أولاً: أن مناقشة هذه الآليات وهذه الضمانات لا تستهدف أن ينتج عنها قراءة وحيدة للشريعة الإسلامية ثم الزعم باحتكار هذه القراءة للتنزيل الشرعي، ومن ثم نزع الشرعية عن باقي القراءات والعمل على فرض تلك القراءة قسراً باعتبارها الوحي الإلهي.
ثانياً: أن تحديد هذه الآليات والضمانات هي مهمة علمائية، ولكن بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، فهي ليست مهمة محتكرة للعلماء المختصين بالعلوم الدينية، وذلك ببساطة لارتباطها ببعدين آخرين: العلوم الاجتماعية التي تمكننا من فهم الواقع ودينامياته وسننه وقوانينه وهو السياق الذي ستتم به تنزيل الأحكام الشرعية، ومنهجيات البحث العلمي والمنطق البشري الذي يجتهد في ضوء النصوص والمراجع الشرعية من جهة، وفي ضوء فهمه للواقع من جهة أخرى ليقارب المراد الإلهي في شريعته قدر ما تطيقه القدرات البشرية.
ثالثاً: أن الشريعة الإسلامية وفق هذه الرؤية هي مرجعية ومنهجية بالأساس، وليست أحكاماً جاهزة للتنزيل، وتطبيق الشريعة يعني ببساطة الإقرار بمرجعيتها والاجتهاد في ضوئها، وهو ما ينتج عنه -كما حدث في صدر الإسلام- قراءات متباينة ومذاهب متعددة بعضها يدخل ضمن الاختلاف والتنوع السائغ والمقبول، وقليل منها يدخل ضمن الشطط والتطرف غير المقبول، ولا يعني بأي حال من الأحوال وجود نظام شمولي ثابت يحتكر الحقيقة وجاهز للتطبيق الفوري ولو قسرياً.
قد يبدو هذا التصور للشريعة الإسلامية وتطبيقها غير مريح للبعض أو حتى للكثيرين؛ إذ إنه يجعل منها شيئاً نسبياً تحكمه الاجتهادات البشرية وتصوراتها من جهة، وتغير السياقات المجتمعية التي تطبق فيها الشريعة من جهة أخرى، وسينادي البعض بأن الشريعة الإسلامية وظيفتها أن تصوغ هي الأفهام والتصورات لا أن تتشكل وفقاً لها، وأن تغير في الواقع والسياقات لا أن ترضخ لحتمياتها وتقلباتها، والرد على هذا أن كلا التوجهين في فهم الشريعة غير صحيح، فلا الشريعة الإسلامية قالب مصمت من الأحكام تستهدف تنميط الأفهام وقولبة السياقات مع اختلافها وتباينها من زمان لآخر ومن مكان لآخر، ولا هي قيم عامة وتصورات فضفاضة تخضع للأهواء وتتكيف مع الواقع دون أن تسعى إلى توجيهه وتصويبه.
المقصود هنا أنه في ظل غيبة الوحي وانتفاء العصمة، صار العبء الواقع على كاهل البشر عظيماً في تلمّس خطاهم نحو الحق والعدل، وهذا العبء لا يليق الهروب منه بالجمود على سير الأولين وتقديس السوابق التاريخية وتديين الآراء والاجتهادات البشرية الماضية، ولا بالسقوط في النسبية والعبثية وإنكار المرجعيات الدينية والقيمية، ولكن يجب النهوض له ببذل غاية الوسع البشري في ضوء ما وصلنا من خبر السماء، ثم ترك المجال للتداول المدني في الآراء والأفهام دون تشنّج وتعصب، ودون تفلّت وغوغائية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.