رياحُ الأزمة لا تزال تقارعُ ربيع الدول الخليجية وتعكّر صَفوَه، وسط شماتةٍ مزعجة من قِبَل بعض الخصوم، الذين ارتدوا وبشكل عاجل عباءة الصلح المزيّفة، والتي تخفي في جوانبها نوايا الفُرقة والتنازع.
لكنّ الأمر الذي لم يكن في حُسبان تلك الدول التي قاطعت دولة قطر، هو أنّ كلّ ما قاموا به من تجييش إعلامي وحصار، وكَيِْل التهم والشتائم، كل ذلك لم يُؤتِ أُكُله حتى اللحظة، بل ربما جرت الرياح بما لا تشتهي سفنُهم التي خاصت غمارَ محيطٍ بدأ يهدّد هذه السفن المبحرة بأمواجه العاتية.
ونزيد من الشعر بيتاً كي نقول إنّ السحر انقلب على الساحر شرّ قلبة؛ إذ بدأت القلاقل تعصف بالمملكة العربية السعودية التي تبدو اليوم في موقف لا تُحسد عليه، وإلّا لماذا أقدمت سلطاتها ودون سابق إنذار على اعتقال كوكبةٍ من علماء الدين المعروفين في العالم الإسلامي، وفي مقدمتهم الشيخ سلمان العودة وشقيقه خالد العودة، وموسى الشريف، وفهد السنيدي، وعوض القرني، والداعية المعروفة رقية محارب، وآخرين كذلك؟
ثم إنها حتى اللحظة لم توضح أسباب عملية الاعتقال، ولم يصدر بيان رسمي يوضح الدوافع والحيثيات التي جرت فيها تفاصيل الاعتقال، ربما يكون سبب ذلك أنّ الشيخ سلمان العودة وزملاءه لم يصدر لهم أيّ تصريحٍ يُدين فيه دولة قطر كما فعل شيوخٌ وعلماء آخرون، ولم يُؤيّد حصار دولة قطر أو مقاطعتها، أو تحميل المدنيين مسؤولية الخلاف السياسي وعبأه الثقيل، الذي يعجز عن حمله المواطن البسيط الذي لا ناقة له ولا جمل.
كذلك لم يُسمَع للشيخ سلمان وزملائه تصريحات سامّة إبان أحداث المسجد الأقصى المبارك، كتلك التي صدرت عن علماء ثِقَال لهم ما لهم من المكانة والرفعة في العالم الإسلامي.
لعل الشيخ سلمان وزملاءه المعتقلين يدفعون اليوم ثمن موقفهم الرشيد هذا، بل إنهم غرّدوا على موقع تويتر، داعين الله إلى ألفة القلوب بين الجيران الخليجيين، وإزالة بواعث الخلاف الذي شقّ الصف الخليجي، وسمحَ للقاصي والداني بالإدلاء بدلوه في المنطقة، والظهور بمظهر المُصلِح الاجتماعي والرجل الرشيد الذي جاء إلينا بحكمته وحنكته.
ليس هذا فحسب، بل إنّ حملة الاعتقالات هذه طالت كذلك أمراء مقرّبين من الذات الملكية، وهذا ما دفع محلّلين كُثُراً إلى التساؤل والتكهن والقول بأنّ هناك بوادر أزمة كبرى تعيشها المملكة اليوم، وتسعى جاهدة إلى إخفائها عن وسائل الإعلام، كما فعلت قبل أسابيع عندما أظهرت الأقمار صور الدمار الذي حَلّ بالعوامية، نتيجة الحملة الأمنية التي نفّذتها السلطات السعودية.
وما شَهِدَتهُ الجلسة الافتتاحية لمجلس الجامعة العربية مؤخراً، يدل على أنّ هناك إصراراً كبيراً على إطالة أمد الأزمة، والذهاب بعيداً، حيث الصراعات والخلافات والتشرذم والتمزق الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع، فأنْ يكونَ مندوبُ دولةٍ خليجيّةٍ ما، ندّاً شرساً لمندوب دولةٍ خليجيّةٍ أخرى في مشهدٍ يبعث على الخيبة، هو سابقةٌ خطيرةٌ، لا تبشّر بالخير على الإطلاق، بل إنها تشجّع الأيادي الغريبة على وَضعِ مزيدٍ من البصماتِ في منطقتنا العربية، والتي يصعب علينا التخلص منها فيما بعد.
هذا وإنّ التغير المفاجئ في مواقف بعض الدول الخليجية من قضايا المنطقة، كان له صدى واسع، وتساؤلات كثيرة لم يُعثَر لها على جواب مُقنِع.
فما الذي دفع المملكة العربية السعودية إلى تغيير موقفها كلّياً من الأزمة السورية، فتغسل يديها تماماً؛ لتترك أنصارها في المعارضة السورية وحدهم في منتصف الطريق، يواجهون خصومهم الذين تجمّعوا على قلب رجلٍ واحد للقضاء على مشروعهم الذي كان للسعودية فيه قسطٌ كبير، وكيف يهاجم مندوبُ السعودية مؤخراً مندوبَ قطر، بدعوى امتداحه لإيران التي وصفها بأنها دولة شريفة، في حين تسعى المملكة العربية السعودية جاهدةً اليوم لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وقد أوفدت قبل أسابيع وسيطاً عراقياً إلى طهران كي تحصل على موافقة الصلح، ثم نفت هذا الخبر نفياً خجولاً متأخراً؟
لماذا حلالٌ عليها المزاج الإيراني، بينما يحرم على الدوحة التي تُتّهم بدعم الإرهاب بسبب علاقاتها الطيبة مع طهران؟
بناءً على ذلك نقول إنّ الأزمة الخليجية لم تعد بعواقبها الوخيمة فقط على قطر، بل إن الجميع دفع ثمن هذا الخلاف، وربما تتوسع رقعة التشرذم لتشمل دولاً أخرى بعيدة عن الخليج العربي في منطق الجغرافيا، لكنها قريبة كل القرب في منطق السياسة والمصالح المتبادلة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.