في العام 2005، تعرَّضت مجموعة من طلبة كلية الهندسة، بجامعة البصرة، إلى اعتداء وضرب من قبل عصابة تابعة لحزب إسلامي، أثناء سفرة طلابية في أحد متنزهات المدينة، بحجة أن هناك اختلاطاً مخالفاً للشريعة، وفي العام الذي تلاه ظهرت حكاية سيارة "البطة" التي يتذكرها البصريون جيداً، والتي نفَّذت اغتيالات وقتلاً وسلباً بحق شخصيات أكاديمية وعلمية وأناس بسطاء، بشكل علني.
ترك هذان المشهدان أثراً واضحاً في تاريخ المدينة، وسجّلا بذلك حضوراً واضحاً للعنف والفوضى، وأعطيا صورة قاتمة للحياة المقبلة فيها، كونها تمثل شرياناً حيوياً ورئيسياً للعراق، وأيضاً شكلت مفارقة بالنسبة لنا نحن الطلبة القادمين للدراسة بجامعاتها، بعد أن كنا نرى فيها مدينة عريقة وموغلة في التاريخ طويلاً.
ورغم أن البصرة، تشكل صورة ثقافية وحضارية، وهوية مهمة للعراق، على طول تاريخه المرهق، إلا أن السنوات التي أعقبت سقوط نظام صدام قد كشفت عن انقطاع كامل لهذه الصورة التي كنا نتخيلها، وكشف بذلك عورة ما يسمى بالنخب السياسية التي أمسكت بالسلطة، فيما بعد.
انقطعت هذه المدينة تماماً عن أي تواصل بين تاريخها وسجلها المدني الحافل، وبين النظام الجديد الذي تبنَّى صناعة الفوضى والأزمات، وتحولت إلى مدينة بلا روح أو قيمة تذكر، بعد أن صعقها الفساد صعقة، أرداها جثة هامدة، لا أحد يمكنه أن يجرؤ على إنعاشها.
ومنذ 2003 تحوَّلت البصرة بشكل رسمي إلى مدينة للبترول والفساد فقط، وتراجعت الحياة المدنية والثقافية والاجتماعية بشكل واضح، وبزغت سلطة الأحزاب التي سيطرت على المقدرات الاقتصادية، واستحوذت على المنافذ الحدودية والموانئ، وعلى المشاريع النفطية، وتحكمت بعائدات النفط التي تسربت بفعلها ملايين الدولارات إلى جيوب الفاسدين واللصوص، والجميع يعرف من كان يقف خلف كل ذلك.
وإلى جانب شفط أموال النفط والمنافذ والموانئ، نشطت الجماعات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة، واستهترت بعض العشائر، وارتفعت بذلك النزاعات، التي بدت سمة واضحة على المدينة في السنوات القليلة الماضية، وجاء ذلك بسبب الفساد الواضح في الأجهزة الأمنية التي تم توزيعها على أساس سلطة وحجم نفوذ الأحزاب.
ورغم حجم المشكلات التي تعانيها البصرة، إلا أن حظها سيئ مع المحافظين والحكومات المحلية التي وصلت السلطة، بدءاً من حسن الراشد وزير الاتصالات الحالي، حينما كان محافظاً للبصرة بعد السقوط، وليس انتهاء بماجد النصراوي الذي دمرها بصفقات ورِشا وعمولات فاسدة.
وحتى لو افترضنا جدلاً، أن هنالك نزيهاً، سيقود حملة تطهير المدينة من الفساد، فإنه سيواجه مصيراً أسود، أهونه الإقالة السريعة من المنصب، ثم إنه لا أحد يستطيع إيقاف العمولات والصفقات والنسب بين الأحزاب، والتي قضت سنوات طويلة كي تصل لهذه المرحلة.
تشير سرعة الأحداث في البصرة إلى أنه قد تطول هذه الفوضى السياسية والاقتصادية والأمنية فيها، بحكم موقعها الجغرافي الاستثنائي الذي يشكل تنافساً قوياً للسيطرة عليها بأي شكل من الأشكال، في الوقت الذي تحولت فيه المدن، التي هي على غرار موقع البصرة لحواضر معمارية وسياحية مهمة، تشكل موارد إضافية لها.
الحقيقة المرة التي نحن إزاءها اليوم، هي أن هذه المدينة التي تهمنا جميعاً لن تكون حاضرة في المستقبل القريب، طالما أن هؤلاء حوّلوها إلى "بقرة حلوب"، استنزفوها كثيراً، دون أن يعطوا فرصة لبنائها، حيث لا فرص عمل، ولا مشاريع بنى تحتية حقيقية، ولا معالجة لمشكلات وأزمات السكن، ولا توفير لحياة وبيئة آمنة للناس.
لكن للبصرة خصوصية واضحة، كان الأجدر بالحكومات المتعاقبة أن تراعي موقعها وظرفها، وأن تكون هنالك حماية استثنائية قصوى، وأن تمنع سيطرة أي أحزاب على أي نفوذ هناك، كان الأجدر أن تكون سلطات أممية كي نحافظ على هذه المدينة التي ينخر فيها الفساد من جميع الاتجاهات.
لقد كُتب على البصرة مثلما كتب على مصير المدن التي استنزفتها الحروب والموت، فهي لا تستحق كل ذلك الذي يحصل بها، هي مدينة مفرطة بالطيبة والمحبة، تعطي من روحها كي تمد بلداً كاملاً مثل العراق بالحياة وتنعشه، مثل الأم التي تضحي بنفسها لإسعاد أولادها، لكنها تبقي نفسها محرومة من كل شيء.
مرت هذه المدينة بتجارب مؤلمة، توقفت فيها الحياة كثيراً، وتأخرت كثيراً عن ركب العالم، لكنها اليوم تحولت لمدينة على غرار ما يمكن مشاهدته من مدن نهاية العالم، التي تعرضها أفلام الأكشن. وإزاء كل ذلك، يجب أن تكون هناك همة وطنية خالصة، تسعى لتخليصها من هذه الأغلال التي ارتبطت بها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.