الجماهير الشعبية، فكرة في العقل الراديكالي، التجأ إليها لمواجهة اليمين الاستبدادي، وجدها اليساريّون حلاً ناجحاً ضد الديكتاتورية ومُصادرة الحريات، وسلاحاً مُتمثلاً بالسطوة الجماهيرية، قادراً على تجفيف منابع القمع السلطوية.
يُفترض أن يكون هذا الفكر حلاً من حلول الشيوعية، ظهرت إرهاصاتهُ الأولى إبّان الثورة الماركسية، مُعلناً نهاية عصر الشيوعية التقليدية، وبداية لعصر الشيوعية الحديثة، غير أن ثمار هذا الفكر لم تؤتِ أُكلها عربياً، رغم مُحاولات قواعده الجماهيرية الحاضنة، مُرجحاً ذلك إلى طبيعة هذه المُجتمعات، ذات الصبغة الدينية المُحافظة.
المُفارقة أن بعض الحركات العربية نجحت نجاحاً كبيراً في أدلجته واستغلاله، مُنتجةً لنا حركةً قوميةً بطعم الماركسية، وحركةً بعثيةً اشتراكية بالطعم ذاته، عصراً يراه البعض ذهبياً وأجده عكس ذلك؛ لأن التحشيد الجماهيري واجتماع الكلمة أمر يصعُب تحقيقهُ حتى في المشاريع السماوية، صعوبةً تكمُن في مُحاكاة الذائقة الشعبية وميولها ومحاولة إقناعها؛ لذا نجد خلف هذه المشاريع مقداراً متواضعاً من الصدق والواقعية، كبيراً من الكذب والخيالية.
عراقياً لم نبتعد عن الفكر الماركسي كثيراً، باختلاف الزمان والآليات والأدوات، واقعاً تحشيد اليوم لا يصنعهُ فكراً يروج للوحدة الدولية، ولا معاهد لتعليم الرقص الشرقي، ولا قصص عن الشجاعة الأسطورية والذكاء الملحمي، ولا جيش لتأديب دول العالم واحتلالها، ومما لا شك فيه أن دراسة توجهات وميول القاعدة، ضروري في صناعتها، قاعدةً ترتكز على التَّديُّن، مؤطرة بالتحفُظ، مُتلخصة سماتهُ في كونه مُجتمعاً، مُطلعاً على العالم، طامحاً بالتقدم، ناقماً على الفساد، مُحارباً للإرهاب، حالماً بالمُنقذ، واضحة معالمهُ أمام صُنَّاعه، وأساساً في مُعطيات انطلاقته؛ لتقمص الأدوار، أولئك المُنقذون، المُحاربون الصناديد، المُقاتلون الأشداء، لا يُشق لهُم غُبار، يسبحون ضد التيار، يُعبدون طُرق الحق بالإزهار، الموصوفون بكُل فضيلة، اللاعنون لكُل رذيلة، فارضين أنفسهم رموزاً ومفاخر على أصولهم وخلفياتهم، يعزفون على أوتار الإثنية والعرقية، مُروجين لخطورة الاَخر، مُصدرين أنفسهم حلولاً.
يبدو أن قُدرتنا في صناعة الثورات الشاذة أصبحت لافتة بدرجةٍ لا لبس ولا التباس فيها، بما يقتضي حتمية اتخاذ وقفة جادة، تفضي إلى معالجةٍ مجتمعية، لا تتحملها جهة واحدة بعينها، ولقاح ثوري، نهضوي الفكر، وطني الخطاب، يُحقن في عقل الفرد فتُشفى به أُمَّة، مُتسلقين على سُلم المزاجية والميول إلى المجد، لا نريد من يوصينا بالبِر وينسى نفسهُ، لا نُريد مَن ينظر في تغيير العالم مُتجاهلاً تغيير نفسه، لا نُريد مُحترفين في فن التحشيد، بل نبحث عن مُحترفين في فن التخليص والانتشال، فتكرار المشهد يُكرر المأساة، مشهد نراهُ قبيل كل دورةٍ انتخابية، حيث لا مشاريع ولا برامج، فيكون جُل الاهتمام مُنصباً في تسخير كافة الإمكانات وتذليل كل العقبات ووضعها خدمةً لحملات التسقيط السياسي، مبينةً كيف أن الجميع فاسدون، ومُظهرة ملائكية المتحدثين.
أشرقت الشمس علينا لنشهد صباحاً ثورياً، يتكلم فيه عن الفساد، كوكبة من نُخبنا السياسة، الأعم الأغلب منها، مُتهمون به! مصورين لوحةً سوداويةً، ورسماً مُظلماً عن الواقع وحقيقتهُ المؤلمة، مُثمثلاً بمُحاولة (X)، إثبات فساد (Y)، ومُحاولة (Z)، إثبات فساد (X) الذي بدوره تكلم عن تعرضه لحملات تسقيط مقصودة، بسبب كشفه لملفات فساد (Z)، فخرجت بصُداع فاقداً التركيز، دائراً حول محور تلك الإحداثيات، عاجزاً عن تحديد أنزه الفاسدين!
أهذا هو مُرتكز حملاتُكم الانتخابية، ومُخرج لبرامجها؟! ضعوا أنفُسكم في هذا الموقف وتخيلوه فقط، ما هو شعوركم وأنتم تنتظرون طفلاً؟ فيخرج عليكم الطبيب يحمل كيساً للبطاطا، يُخبركم أن المرأة التي في صالة الولادة وضعت هذا الكيس، ولم تضع شيئاً غيره؟ هكذا أصبحنا نشعر، ونحن ننتظر منكم مشاريع وطنية وبرامج واقعية، تصنع لنا وطناً مُستقراً، وشعباً مُتماسكاً، نابذاً لكُل أشكال الفرقة والاختلاف، وواقعاً خدمياً مُزدهراً، واقتصاداً قوياً، يؤمن فُرص العمل لحملة الشهادات وطوابير الشباب العاطلين، وخُططاً تؤمن إصلاح كل المفاصل المُنهكة المُتهالكة، هكذا أرى الانتخابات في الدول الديمقراطية، موسماً تقفون فيه أنتم لإعلان برامجكم، وأقف فيه أنا مُستمعاً لاختيار الأصلح مِنكُم، لا أن أستمع فيه لحملات تسقيط، مكانها المحاكم ومقرات النزاهة ومراكز الشرطة، إن كانت تسقيطاً فتلك مُصيبة، وإن كانت حقيقةً تسترتم عليها طيلة الفترة الماضية، فالمُصبيةُ أعظمُ.
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على كل فاسدٍ، إنما سخروا حملاتكم في توضيح برامجكم، والحلول التي ستُقدمونها لنا، لا في تحشيدنا وتجهيلنا، يا نُخبنا السياسية، يا آمالنا السرمدية، يا أحلامنا النرجسية، يا خطوطنا الدموية الحمراء، يا تيجان رؤوسنا الذهبية الصفراء، كفاكم استصغاراً واستحقاراً لعقولنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.