قبل أكثر من ثلاثين عاماً، عندما كنت طالباً في جامعة النجاح الوطنية، قال البروفيسور عبد الستار قاسم، المفكر الفلسطيني في العلوم السياسية، في إحدى المحاضرات: إن العالم العربي مقبل على صراع فكري عنيف، سيكون صراعاً طاحناً، وستسيل دماء كثيرة قبل أن يتحقق الاستقرار. وقال: إن منطق التاريخ يقول إن الصراع الفكري هو مرحلة مهمة في تاريخ البشرية حتى تتمكن الشعوب من الوصول إلى صيغة يتعايش فيها الجميع، بعد أن يكون طرف واحد قد فرض نفسه على الجميع، وإن أوروبا وغيرها من مناطق العالم شهدت مثل هذا الصراع. وقال أيضاً:
إن الصراعات التي شهدتها الشعوب عبر التاريخ أدت إلى مقتل أعداد هائلة من الناس من خلال الصراعات والمجازر والحروب الأهلية، بالإضافة إلى ما ترتكبه الحكومات بحق الشعوب، وذلك لمنع انهيار النظام القائم، والحيلولة دون حدوث تغيير يكون الشعب فيه هو الرابح من الصراع.
فكرتُ كثيراً بهذا الكلام طيلة تلك السنوات الطويلة، وكنت أقول في نفسي: إنه لا بد من طريقة لاجتياز هذه المرحلة دون دماء وأشلاء وآلام ومعاناة.
لم أبُح لأستاذي بأفكاري التي اعتبرتها أكثر منطقية من الكلام الذي سمعته منه. وحدثت نفسي بأن الشعوب، ونخبها المثقفة، ونخبها السياسية، لا يمكن أن تلجأ للعنف لحسم الصراع الفكري، وأنه يمكن للعقلاء تدارك الأمور، والعمل على اجتياز المرحلة بثمن قليل. قلت أيضاً في نفسي: إن منطق التاريخ صحيح، ولكن العصر الحديث هو عصر التكنولوجيا وعصر الحريات والديمقراطيات، ولا بد أن تتحقق الحريات للشعوب بوسائل حضارية تتمثل في الحوار والنقاش والاحتكام إلى المنطق والمصالح العامة.
اليوم.. أعترف وأقول: إنني كنت مخطئاً.
فها هو اليوم يحدث ما قاله أستاذي الكبير البروفيسور عبد الستار قاسم. فالأنظمة لن تسمح بانهيارها، والقوى المحلية والعالمية التي تمثل امتداداً لهذه الأنظمة تعمل بكل جهد لمنع التغيير. والموجة الأولى التي اجتاحت العالم العربي منذ عام 2011، رغم فداحة الأثمان التي تم دفعها لغاية الآن، لم تفلح في إحداث التغيير المنشود، ولكنها "موجة أولى" ولا أظن أنها ستكون الأخيرة.
في الحقيقة أن ما يشغلني اليوم هو أمر أبعد مما يحدث على الساحات العربية. ما يشغلني هو التباينات الهائلة في الفكر والممارسة بين النخب، وحتى بين المواطنين. فهناك مسافات شاسعة تفصل بين تفكير الفئات المختلفة من الناس، بحيث يتعذر عليهم الوصول إلى اتفاق، أو الاحتكام إلى قواعد مشتركة.
وبالطبع، تعمل دوائر كثيرة خارجية وداخلية لتعميق الخلاف، وخلق فجوات عميقة بين التيارات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي. ولذلك، تجد الأجندات متعارضة إلى حد كبير بين القوى السياسية والاجتماعية، وهذا ما من شأنه أن يطيل فترة الصراع، وأن يجعله أكثر دموية.
أشعر أيضاً أن هناك غياباً واضحاً للحوارات الفكرية، وأنه لا يكاد يوجد مثقفون يحملون راية الحوار والتغيير السلمي والتعايش.
ففي خضم الصراعات الدموية التي تعصف بالمنطقة، لا تكاد تجد أصواتاً فكرية وثقافية واجتماعية، وحتى سياسية، تتحدث عن المخرج من الواقع المأزوم الذي تمر به الأمة العربية، باستثناء بعض الأصوات القليلة للمفكرين البارزين أمثال المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة، والبروفيسور عبد الستار قاسم.
والأسوأ من ذلك أنك ربما ترى بعض الأنظمة السياسية ليست معنية بالتغيير أصلاً، ولا هي معنية بحسم الصراع الفكري في الاتجاه الإيجابي. وهذا يفتح الباب واسعاً أمام تعمّق الخلافات، ويسد الباب بالكامل أمام أي إمكانية للحوار والوصول إلى صيغ وفاقية للأطراف الممثلة للتيارات الفاعلة في المجتمع.
تلك الحكومات كان ينبغي أن تمثل الشعوب، وترعى الحوار، وتفتح المجال للقوى الاجتماعية والثقافية والسياسية لكي تكسر الحواجز الوهمية الموجودة بينها، وتساعدها على تخطّي مرحلة الصراع الفكري بأمان ودون خسائر جسيمة.
لكن القارئ يعلم أن هذا لن يحدث؛ لأن التغيير ليس في صالح النخب الحاكمة في غالبية الدول.
وباختصار، أصبحنا اليوم أسرى لمجريات الأحداث، متأثرين بها ولسنا مؤثرين. وأصبحنا رهائن للاعبين الكبار في العالم، ولا حول لنا ولا قوة في إدارة دفة الأحداث.
والمطلوب منا فقط هو انتظار المصير المحتوم الذي ستواجهه الشعوب نتيجة هذا الصراع وتدخّل القوى الكبرى في شؤوننا.
فهل يمكن للنخب والمثقفين تجاوز هذا الواقع من خلال العمل على فتح نافذة للحوار، وإطلاق الطاقات المجتمعية والشبابية للوصول بالإنسان العربي إلى بر الأمان؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.