يكتشف المرء قدراته ومستواه حينما يقارن نفسه بالآخرين، خاصة أولئك الذين عرفوا تقدماً مهماً إلى الأفضل في فترة وجيزة، أو أولئك الذين كانوا أضعف الناس في هذا العالم، فأصبحوا دون أن نعي أفضل منا بكثير.
آنذاك يفرض الواقع على ذلك المرء أن يقف لحظة متسائلاً: ألم يكُن حالي أفضل يوماً من هذا الذي صار اليوم أفضل منّي بكثير؟ كيف حدث كل هذا التحوّل دون أن أشعر؟ أو بمعنى أكثر وضوحاً، أين كنت عندما تغيّر العالم بأكمله ولم يكن لي نصيب من هذا التغيير؟
أنا العربي.. عانيت الكثير منذ وجودي، أنا الذي لم أستطِع بعد أن أكتشف سبب معاناتي، أعجزت الكون يوما بفصاحتي وعلومي، فكنت ملقباً بصاحب العلوم حتى افتخرت بكبريائي متحدياً، فكذب الله كبريائي وافتخاري بقرآن فصيح معجز فاق علمي وبياني، نور اهتديت به في طريق الحق، فسرت في الأرض ناظراً في كيفية بدء الخلق، أمرني أن أسطر علومي بالقلم، فلم تنتهِ رحلتي حتى جمعت علوماً أقعدتني على عرش الدنيا.
أنا العربي المسلم، حملت يوماً على عاتقي رسالة الرحمة والعلم لإخراج الخلق من ظلمات الجهل والظلم والاستبداد إلى نور العلم والرحمة والعدل، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
أنا الذي ظننت يوماً بكبريائي أنني بلغت القمة، فافتخرت بإرثي خاملاً؛ لتبدأ حماقتي وينتشر جهلي بين عشيرتي، أنا الذي خضعت بعد شموخي لصغار ركبت على ظهري فاستعمرتني، فحق لها حينذاك أن تنهب ثرواتي وتشرد أبنائي، أنا الذي سمحت لصغار أن تلعب على أرضي ألعابها، بعدما وضعت على عيني منديلاً أسود، لقد أخذوا منّي علومي وكنوزي، ونصبوا لي على عرشي سيداً جعلني عبداً فحاصرني.
أنا العربي الذي نسي كل شيء، فصار عبداً مقدسّاً لمظاهر الصغار، لقد أشغلوني عن همومي فنسيت أن لي كنوزاً مسروقة، والسارق هذا الذي لا يزال يسرقني ويضحكني بألعابه التي تفجر أخلاقي داخل كياني.
أنا الحاكم العربي بِعتُ أوطاني وشعوبي في سبيل حضارة نصبتني رئيساً وأشبعت رغباتي وشهواتي، أنا الذي ضعت وضيعت كل شيء فأصبحت أستغرب من جزئيات علوم تهطل عليّ متقطعة، فانبهرت ولم أدرك أنها سرقت منّي يوماً كاملة.
أنا الذي نمتُ يوم كان الشافعي جدي والجاحظ أبي، والخليل خالي، والخوارزمي عمي، وابن الهيثم وابن رشد وابن سينا وغيرهم أهلي وأحبتي، نمت يوم ذاك وفي يدي سيف عمر وخالد، وبجواري ابن عباس يكتب ما يتلوه عليه عثمان من قرآني، وعن شمالي ابن هشام يكتب أيامي، وعن يميني أبو الأسود يسمع من عليّ قواعد فصاحتي وبلاغتي.
أنا العربي المسلم.. من عهدي ذاك نمت ولم أستيقظ بعد من غفلتي.
أنا المرأة العربية نسيت كرامتي وشرفي، وتهت وراء مظاهر صارت جزءاً من حياتي، لقد فتنوني حتى ما عدت أشعر بقيمة حياتي، أنا المخلوق كما تصورني الإغريق والرومان واليونان، أفعى وشيطاناً وجناً ومصدر كل سوء، سلعة أباع في القصور وأخدم غرائز الذئاب المقيتة، أنا المرأة كرهت الحضارة والحرية والحداثة واشتقت لجاهلية عروبتنا، أحن إلى جاهليتنا بعد هذا الجهل الفظيع.
أنا الأرض العربية أَحِنُّ إلى الرجال، أنا حلب وحمص وبغداد والموصل، أنا كل شبر لم يرضَ يوماً سماع الذل، أنا الأندلس زوجوني أجنبيا دمرني، أنا القدس دفعوني بعد خالد وصلاح الدين إلى الحرب بلا سلاح، أنا الشرق والغرب والشمال والجنوب ضعت وضاعت ملامحي، قصفت وتبخرت حضارتي ومآثري وتاريخي.
أنا الأرض العربية وجهة كل قنبلة وأرض تجارب الحروب والصواريخ، أنا الأرض اليتيمة بلا أهل.
كفاك بُنيّ، أنا الحرف العربي أبكي أنيناً عربياً، أسطر نكسات عربية وحروباً عربية، أنا الحرف العربي قد نشف مدادي، أنا الصوت العربي قد ضاعت حنجرتي، أنا العربي قد فنيت، أنا كل شيء فانٍ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.